بين هنا وهناك.. رواية على حلقات، تحكي عن روز العالقة بين عالمين.. بين الحياة والموت.. في “كوما” تعبر ذهاباً وإياباً عابرة كل تجارب العمر من ما قبل الولادة.. وحتى اللحظة الفاصلة.. بين هنا وهناك..
..شيء من التقديم
هل هي حقيقة أم تخيّل؟ لا أعرف..
لكن حالتي قد تكون ما كنت قرأته ذات يوم في ملخّص لكتاب نشر في أحد أعداد مجلة المختار التي كانت تملأ مكتبة أبي.. أذهلتني حكايات عائدين من تجربة موت ما.. تجربة؟
هل أنا الآن هنا.. حالة يدرسها العلم، أو قصة في كتاب؟ لا أعرف..
ما أعرفه أنني ومن “كوماي” الخاصة أعيش الوقت.. وأستعيد كل التفاصيل المؤلمة الغريبة لعمري الذي كان بمن فيه.. بما فيه.
موجعة حكايتي، والله العظيم موجعة.. وأغرب ما فيها.. يحصل الآن..
حيث أنا الرواية والراوية؟
أتمشى في دهاليز ذاكرتي وعمري الذي كان، بانتظار أن يُقرَّ قرارٌ ربّاني.. قرارٌ الممسك بالحياة وبالموت وما بينهما، حيث أنا، فأبقى هنا أو أنتقل إلى ذاك العالم هناك، في آخر النفق النوراني الطويل وما بعده.
إنها الكوما.. “كوماي”
بياضٌ.. بياضٌ.. بياض..
يا لهذا البياض الذي يغمر كل شيء ويغمرني..
أيكون ضباباً كثيفاً يغطي المكان؟
أين أنا؟ ما هذا المكان الذي لا يشبه إلاّ وصفَه؟ وكأنني أسكن غيمة دافئة.. أشعر بقربي الشديد إلى الله..
لكن لِمَ؟ من؟ ماذا أنتظر؟ إلى متى؟
أشعر بفيض من الذكريات يسيل في بالي.. وكأنها تتسابق لتعرض نفسها أمام نفسي..
لمَ تفتح الذاكرة كل بواباتها؟ هل التذكر نعمة في هذا الـ “هنا”؟ أم هو حاجة؟ أم مجرّد تمرير للوقت؟
أين أنا؟
حرارة حنونة تحيط بي وتدغدغ جلدي.. تخترق مساماتي وتلامس حتى عيني..
أشعر بالخفّة كريشة في مهبّ سكون..
سكون غريب يحيط بي، يعزلني عن كل ما هو مسموع، وملموس ومحسوس.. كأنه النهاية أو يكون بداية؟! بداية ماذا؟
مذهل هذا الإحساس بالنقاء والصفاء والسموّ..
أي بُعد يجذبني إليه؟ سابع.. أبعد؟
لماذا أذكر الآن وبقوة لا يمكنني مقاومتها، كتاباً بالذات، بل ملخص كتاب..هل لأنني قرأت فيه، ما يشبه ما أنا فيه؟
ملخص كتاب مترجم في أحد أعداد مجلة المختار المفضلة عندي، والتي كانت على الرفّ الثالث من الجهة اليمنى، في مكتبة أبي العملاقة. مكتبةٌ تغطي جدار الصالون كلّه، من فوق لتحت، من الزاوية إلى الزاوية.. كانت المكتبة تحفة.. إنها ثروة أبي الفكرية الحقيقية الراقية وهي أغلى ما مَلك، بعدنا.
أحببتها كثيراً، بمئات كتُبها الموزّعة على رفوفها، بكل الأشكال والموضوعات، والأحجام والأنواع.. مجلّدات، موسوعات، كتيبات.. والرفّ الثالث من الجهة اليمنى، خصّصه لمجلات المختار التي حرص أبي على شراء عددها الشهري.. أقرأها بتلذذ، من الغلاف إلى الغلاف..
أراني صبية في الرابعة عشر من العمر.. أسحبُ عدد المختار هذا وأقلّب صفحاته.. وأصل إلى آخرها، كما العادة.. وأقرأ:
“أغادر جسدي، وأرتفع فوقه لأراني ممدّة على سرير المستشفى.. ثم أراني أدخل في نفق نوراني طويل.. لا سقف له، لا زوايا، ولا أرضية ولا جدران.. لكنني واقفة في النور.. أنظر إلى نهايته التي لا تنتهي..
أرغب في أن أعبر النفق إلى نهايته لأنتقل إلى المقلب الآخر.. لا لست خائفة.. لكن، تشدّني رغبة العودة إليّ.. إلا أنه ثمة ما يثبتني في مكاني هنا.. بين عالمين”.. وتمرّ حياتي كفيلم على شاشة”..
غريب.. يحكي عني هذا النص.. عن حالتي الآن.. ما الذي يحدث لي؟!
أنظر إليّ.. فأراني، كما قالت السطور.. ممدّدة على سرير المستشفى..
لا لا أنا لا أهذي..
هذه أنا روز.. هذا صوتي أسمعه من باطن ما، وهي “روحي” التي تخبر؟ ربما ليست روحي.. ما هي إذن؟
هل متّ؟
أم أنني معلّقة بين هنا وهناك؟ عالقة أنا بين الحياة وبين الموت؟! هل هذا برزخي؟
أذكر أنني ناقشت أبي في هذه المسألة.. سألته عن أولئك العالقين في ذاك الفاصل بين اللامكان واللازمان.. لم يجبني بوضوح.. حدثني عن قدرة العقل على ابتداع تهيوءات، وأن هذه صور دماغية قد تكون مبتكرة، أو مخزونة، وأن لا إثبات علمياً على ذلك.. جزم أن لا أحد عاد وخبّر..
صعّبها عليّ أبي حين طرح احتمالات.. هل للحقيقة وجوه كثيرة؟ لا أعرف..
مع ذلك، وجدت في ما قال منطقاً مريحاً من أي تفكير يوجع الرأس ويطيل الجدال.. فكلامه حسم المسألة ولعله مخرج فكري يلجأ إليه من لا يودون البحث بحرية مطلقة عن إجابات.. هؤلاء، يريحهم إيمانهم الذي رسّخته التربية والمحيط والتعلّم والأصدقاء..
ما لي ولهم؟
بعد سنوات، أنا نفسي قمعت نفسي عن التفكير ليس فقط في ما وراء الحياة، أو ما قبل الما وراء، حيث أنا الآن.. بل أنني قرّرت ألاّ أفكّر حتى بالحياة.. أردت أن أعيش قصاصاً في الدنيا.. ظننت لسنين أنني أستحقه، لأرتاح في الآخرة..
رضخت ُطويلاً خاشعةً لإرادة الله وما رسمه لي من كل أصناف العذاب والوجع والمهانة والفقد والحرمان.. اعتزلت كل شيء، كل شيء.. لأتيح لمرضي فرصة التمكّن مني براحته.. فليتمدّد بطيئاً مطمئناً إلى أن لا موانع أمامه.. خصوصاً ذاك المحيي الكبير: حب الحياة.. لم أعد أحبها ولا أريدها ولا أستحق حلاواتها، بعد غياب الأحباب، وهم أهم أسباب استحقاق الحياة.
كم هو مضحك حالي، ها أنا عالقة هنا. بي رغبة شديدة في أن لا أكمل حتى آخر النفق النوراني اللطيف هذا.. في أن أعود إلى من أحببت.. أضمّهم إلى قلبي.. أشمّهم.. أن أمضي كل العمر هكذا..
لكن هل بقي لي عمر؟
معلّقة أنا في كوماي..
لستُ ميتة ولا حية.. أنا بين بين.. لكن عيناي مفتوحتان، بهما أرى النور كله.. وأعماري التي مرت.
هذه أنا.. الممدّة على سرير في مستشفى، مسالمة مستسلمة وجميلة بلا حراك. أتنفس كآلة..
يا لها من لحظات مهيبة..
أسمع نبض قلبي الرتيب، وحده يقول إني على قيد شبه حياة..
حتى صوت تنقيط الدواء في إبرة المصل أسمعه، انسيابه بأدب في الأنبوب أسمعه.. واختراقه أوردتي أسمعه. لكني جامدة كتمثال شمع..
وأقتربُ مني أحاول أن ألمسني.. لا نشعر ببعضنا، لا أنا ولا أنا..
أحاول أن أصرخ.. أسمع صوتي منادياً: “قومي روز.. قومي”.. لكني لا أسمعني.. أهزّني فلا أهتزّ.. ألمسني فلا أشعر بي..
هناك على سرير المستشفى أنا حية.. أتنفس.. الدواء يسري في عروقي، قلبي ينبض.. لكن هنا لكنني لم أعد مرئية..
ها هي الممرضة تدخل لتعاينني.. منى إنها منى.. أعرف اسمها.. كانت في استقبالي حين أدخلني أنَس بحالة طوارىء، كان يحملني بين يديه..
“أرجوكم ساعدوها.. ساعدوني.. لا أريد أن أخسرها بعد، لا أحتمل فقدانها أكثر..”
أخذوني من أنَس ولم يردوني إليه.. أين أنَس؟ لمَ لا أراه؟
بَكاني وراح؟
أحاول الاقتراب من منى.. ألمس كتفها، أحاول لفت نظرها.. لكن لا تراني.. لا تشعر بي.. فانسحب إلى الزاوية حزينة..
ها أنذا في عالم خفاء.. أتمشى في أزمنة بعيدة، قريبة وبين بين.. أنا في الـ بين بين.. أي سوريالية هذه؟ لكنني أرى وأصدق..
الآن يدخل الدكتور يوسف على عجل.. يقترب من الممدة على السرير من تلك الـ “أنا”.. يتأملني.. يبدو آسفاً:
“ما تقبّل أنَس انها بالكوما، مسكين.. ما بلومو”- قال الدكتور يوسف ثم أضاف وهو ينظر إليّ غير مصدّق- “راح ما بعرف لوين”؟
“حرام!! معقول بعد كل هالعمر، يلتقوا وهي بين الحياة والموت؟” قالت منى وهي تمسح دمعها..
بكت عليّ وبكت على أنَس وبكت على روزا..
يا الله.. أريد أن أعود إليهما.. أن أمرغ وجهي في قلبيهما.. أن أعوّض أعماراً من الغياب..
وبين الـ هنا والـ هناك.. حُكِم عليّ أن أنتظر وقد حكم عليّ بموتٍ مؤجل، أو حياة جديدة.. أيهما ستكون لي؟ لا أعرف.
ها أنا في “كوماي”، أمضي الوقت في استرجاع حياتي.. ريثما يتقرر أن أرجع إلى هنا أو ارتحل إلى هناك..
الداية “أم جوزيف” ولاّدتي
يوم ولادتي.. كان يوماً شتوياً بامتياز.. بردٌ وبرقٌ ورعدٌ ومطرٌ غزير.. حين استقوى ألم المخاض على أمي.. كل الوجع السابق الذي تتالى لأيام، كان مجرد تحضير لقدومي.
ارتدى والدي معطفه السميك.. سيخرج ليأتي بأم جوزيف الداية. كان قلقاً من ألاّ توافق على مرافقته، وأن تسأله كما فعلت بالأمس عن عدد “الطلقات” وعن التوقيت بين نوبات الوجع.. كلّ “البِكريات” هكذا.. و”البكرية” بحسب لهجة أم جوزيف الشامية الجميلة هي المرأة في ولادتها الأولى.
-“إذا ما قبلت تجي معي هالمرة، رح جيب تاكسي وإجي انقلك عالمستشفى”.. قال أبي بتوتّر، قبل أن يغادر الغرفة سريعاً خوفاً من “سفقة هوا”.. ويفتح الباب ممسكاً بمظلته الواسعة.. لم يكن اشترى سيارة بعد.
-“حط الشال عا راسك”.. قالت أمي بصوت أشبه بالهمس من شدة وجعها.. وأضافت: “ما تضهر بلا شال.. برد كتير”..
ابتسم أبي بحنان وحبّ كبيرين. أمي لم توفر لحظة في حياتها لتعبر لأبي عن خوفها وحرصها عليه، حتى في عزّ مخاضها..
والداي حكاية حب صافية.. لم يفرّقهما لا مذهب ولا طبقة اجتماعية.. قاوما التقاليد واتفقا على “الخطيفة”.. في زمنهما، كانت الخطيفة تحدث خضة في أي مكان تحدث فيه.. تشاجرت العائلتان، وتبادلتا التهديدات.. كان شرط جدي منصور، والد أمي أن ترجع أمي الى بيته، أن يعيد ألبير تيريز الى طاعة أبيها.. إلا أن جدتي رفضت، وقالت لجدي: هيدا قدرها.. فيك ترد القدر؟ اذا رجعت تيريز يا منصور رح تبزق علينا وعليها العالم، ورح تصير سيرتا عا كل لسان.. خلص هيدا نصيبا”..
ومع أن جدي فقد أعصابه لجواب جدتي، فضربها أمام المصلحين.. لكنه في النهاية رضخ للأمر الواقع وصالح أبي وأمي، اللذين تزوجا وفق مذهب والدي الماروني وحافظت أمي على اورثوذوكسيتها.. وصار أبي سند ظهر جدي.
وكنت أنا من سيتوّج حبهما، بعد سنة بالتمام والكمال من زواجهما.. سأكون نتاجاً منهما.. هكذا عرفتهما واختبرتهما حتى آخر لحظة جمعتني بهما، اتفقا على كل شيء حتى عليّ..
وأحبني جدي منصور كثيراً.. دلّلني، لعّبني، غنى لي..
-“يللا تنام روزا.. يللا يجيها النوم.. يللا تجيها العوافي كل يوم بيوم”..
كنت قرة عينه وحبيبة قلبه ونسيم روحه..
كنت بعمر الثلاث سنوات حين مات جدي..
بكيت حين أخرجوا جثته من البيت.. ناديته.. مددتُ يدي أريد أن أسترجعه.. حرّكت أصابعي أستدعيه.. تكمشّت بي أمي وجدتي وبكى الجميع لبكائي.. افتقدت جدي لكن مع الوقت نسيته.. أو أنه دخل عميقاً في الذاكرة؟ لا أعرف..
..وخرج أبي من البيت.. فشدّت أمي بيدها على طرف السرير حتى جعلكت الشرشف، لم تصدر صوتاً واحداً رغم حدّة المغصة. بيدها الأخرى، عصرت يد جدتي روز التي لم يعد بإمكانها أن تتلو صلواتها على حبات المسبحة، إلا بيد واحدة، وتتوسل بنظراتها تمثال السيدة العذراء، شاحذة لأمي بعض القوة على احتمال الألم.. ثم تتوسّل إلى الرب:
-“يا ربي توقف مزاريبك..”
هتفت جدتي من صميم قلقها على أمي الموجوعة.. فكثافة المطر ستؤخر عودة أبي وأم جوزيف، وأمي، ابنتها الوحيدة تعايش ألماً ذاقت هي مُرَّه..
أم جوزيف تلك، حالة خاصة بين نساء الحي.. اكتسبت لبنانيتها بالزواج، إلا أنها لم تتخلّ عن لهجتها السورية المحببة.. جاءت مع والديها في أوائل أربعينيات القرن الماضي إلى بيروت التي فتحت صدرها لتضمّ الجميع.. كما كل مدن الدنيا؟ لمَ العواصم هي مدن الفرص؟
كان والدها الطيب والبسيط، مالكاً لأراضٍ في الريف الدمشقي، جلسات قليلة مع قريبه النصاب أبو لؤي ، كانت كافية لإقناع الوالد، بأن يبيعه المزرعة التي ورثها عن أبيه، بكل خيراتها، مزروعات، أشجار مثمرة، وبقرة كانت أم جوزيف صغيرة، تدلّلها وتحبها كثيراً.. وسهرت معها ذات ليلة حتى الصباح، كي تراقب مخاضها ثم ولادتها لعجلها الصغير..
من طفولتها والولادة تذهل أم جوزيف.. تبهرها مسألة خروج حياة من فتحة تتوسّع لتبعث كياناً بكل ما فيه.. ثم تضيق وكأن شيئاً لم يكن.. مع أنه كان وأكثر.
غادر الياس، أبو أم جوزيف، الريف إلى أضواء بيروت التي كانت تتفتح بقوة نحو الحياة، مدينة الفرص وعاصمة العالم التي تقسمت، وتباغَض ناسها بلا سبب مفهوم.. أصابتهم لوثة الكره.. وانتشرت بينهم كوباء ملعون.. حمّلوه بالجينات إلى أولاد أولاد أولادهم..
غادر الياس مزرعته الريفية من الشام، واشترى منزلاً صغيراً مع حديقة أصغر في بيروت..
حاول الرجل أن يتأقلم مع حياته الجديدة إلاّ أنه لم يتمكن.. إيقاع المدينة السريع وعجقتها أربكت هدوءه الريفي، وخربطت كيانه.. ماذا يفعل هنا؟ أقنعه أحدهم بأن يفتتح مشغلاً للخياطة، فاقتنع. ووعده سمسار بأن يشتري له ماكينات ويؤمن له العمال، فـ “الشغل متل النار” والستات يرغبن في التمختر بأبهى الأزياء المفصلة على قدودهن الميّاسة، يحضرن صورة لنجمة سينمائية من مجلة أو جريدة، ويطلبن مثلها، على مقاسهن، يغيّرن في الألوان، في القماشة، لكنهن يعشقن النجمات، فيكنّ مثلهن..
الياس الذي صدّق الحلم.. لا يفهم في الخياطة.. وعده السمسار بأن يحضر له معلم خياطة باب أول، يستلم الشغل أما هو فيكون مديراً، يجلس خلف مكتبه ويعدّ الليرات..
هرب السمسار بثروة الرجل.. فساء حاله.. ومنعه خوفه من الشامِتين من العودة إلى ريفه.. فظل يردّد “راح المال والرسمال” حتى طقّ قلبه من القهر والشوق الى بلده والندم..
وبقيت الطفلة أم جوزيف تحلم بالمزرعة وبالبقرة الولاّدة.. أما أحلام صوفيا، أمها فراحت إلى شغيلٍ في ورشة بناء مجاورة “بصبص” عليها، وهي خارجة من الحمام، فأحبها بلا تردّد وغرقا في غرام غريب.. نظرة، فتعاطف، فابتسامات، فتلامس أيدي فـ.. وقع المحظور الحرام، عند مدخل الدرج، غير مكتمل البنيان..
لعل صوفيا أرادت أن تفجر كل أنوثتها وشبابها الغض في من يستحقه ويرتوي منه، فالياس الذي لا يتوقف عن “راح المال والرسمال” نسي أن في بيته زوجة شابة فاتنة، وأن الحياة لا تزال أمامه، وأن يأسه سيقعده عن لحاق الزمن.. فتوقف كل شيء فيه، إلا عن لازمة “المال والرسمال” التي بات يلحنها ويردّدها على إيقاع الضرب على ركبتيه.. صوفيا لم تسامحه على حرمانها من كل ماضيها، وكيف أنه أوقعها في حاضر لا مستقبل فيه.. حاربت اكتئآبه وذبوله ومرضه وقلة حيلته بأن أحبت خليل الشغيل.. ونسيت حتى ابنتها الصغيرة التي لم تستوعب كل التغييرات التي تجري سريعة في حياتها.. من جيرة الزرع والبقرة الولاّدة، إلى نكد وشرود وشكوى واكتئاب.. راحت تراقب هررة المدينة في تزاوجها، وتختلط عندها الأمور.. هل هذا صوت أمي عند مدخل الدرج مع خليل الشغيل أم قطط مهتاجة تتناتش اللحظة؟ ثم تراقب انتفاخ بطن القطة وتتلصص بعد شهور على خروج جرائها منها.. ثم تمجّد الرب الخالق في ما اجترح من معجزة.
حين عرفت أديل بوفاة شقيقها، والد أم جوزيف، بكت حزناً عليه وأسفاً إضافياً لأنه دفن بعيداً عن أرض أجداده التي باعها، ومع أنها خاصمته على فعلته تلك، إلا أنها غفرت كل شيء حين وصلها خبر وفاته، فقررت أن تعود من المهجر وتعيد وصل ما انقطع مع عائلته الصغيرة التي بقيت فرداً.. فأعادت آديل تشكيل العائلة، منها ومن ابنة أخيها الصغيرة لا غير.
ففي صبيحة اليوم التالي لعودة العمة آديل إلى بيروت، اختفت صوفيا.. تاركة الطفلة الصغيرة وهي لم تتجاوز الأحد عشر عاماً، وهاجرت الى عشق صار حلالاً بوفاة العائق الشرعي، واطمأنت إلى أن العمة آديل لن تهمل الطفلة.. وكان رهانها في محله.
وبقيت أم جوزيف مع عمتها آديل.. آديل العائدة بشهادة قابلة قانونية احتضنت الطفلة وسكنت معها في بيت المرحوم. أحبت آديل الطفلة، كما لو كانت ابنتها وأكثر، وعلمتها القراءة وكتابة اسمها.. وحين تزوجت ولم تنجب. ازداد تعلّقها بابنة أخيها أكثر فأكثر.. كذلك فعل جوزيف، زوج آديل الذي وعدته الطفلة أنها حين تكبر وتتزوج وتنجب صبياً، ستسميه جوزيف تيمناً به.
كبرت الطفلة وتزوجت ومات زوجها ليلة عرسهما.. لم تنجب لكنها برّت بوعدها، فأصبح اسمها أم جوزيف، حتى آديل عمتها، نسيت أن اسمها كان أنجيل..
كانت أم جوزيف ترافق آديل في زياراتها للولاّدات.
في البداية كانت الصغيرة، تسترق النظر، بخجل، إلى أفخاذ النساء المنفرجة عن عالم لم تعرف لذائذه يوماً..
كانت كل نشوة أم جوزيف تتحقق حين يبرز رأس الطفل من أحشاء أمه.. هذا إنجاز ربّاني.. ومع كل ولادة تكرّر: “سبحانك يا رب.. يتمجد اسمك.. تتمجد قدرتك”.
ومع الوقت صارت أكثر جرأة وإقبالاً على المشاركة في عملية انجذبت إليها من طفولتها، تذكرها يوماً بعد يوماً، ولادة تلو أخرى، ببقرة مزرعة والدها الحبيبة. صارت تساعد عمتها أكثر فأكثر، وتكتسب خبرة، في إنجاز معجزة الرب، أكانت عجل بقرة أو طفلاً آدمياً، ذكراً أو أنثى أو أنا..
حين انزلقتُ من أحشاء أمي، بسلاسة يُدغدغ ذكرُها جلدي، سحبتني يدا أم جوزيف اللتين زينتهما الأساور الذهبية كالأكمام.. صارت الأساور جزءاً من يديها.
قالت أم جوزيف كلماتها المعهودة في استقبالي، وابتسمت وأشرق وجهها: “سبحانك يا رب.. يتمجد اسمك، تتمجد قدرتك” ثم وكمن انتهى من مهمة يؤديها بطريقة أوتوماتيكية، أمرت أمي بنبرة عسكرية:”قومي قومي بلالك هالدلال.. اجتك بنت متل القمر، اسم الله اسم الله”.. وبصوتها العريض” تابعت تقول لجدتي التي ملأت الدموع عينيها: “بتشبهك الخالق الناطق يا وردة.. شو رح تسموها”..
كان أبي في الغرفة الثانية يشهق ببكاء فرح صامت. سمعته أم جوزيف فعلا صوتها: “ما تكون زعلت انو جابتلك بنت”!!
أعوذ بالله.. كتر خير الرب.. نعمة نعمة”.. تمتم بصوت مخنوق.. ورسم إشارة الصليب على وجهه وضم قبضتيه إلى فمه ليكتم صوته.. كان أبي سعيداً بي..
حان موعد اللمسة الأولى، الضمة الأولى، الاحتضان الأول.. يا الله!
بسلاسة لا توصف، ورقة لا تُنسى.. حملتني أمي إلى صدرها برفق ورفعتني اليها وقالت بوهن:
-“منسميها على اسم أمي روز” قالت وهي تنظر إليّ بعينين عاد إليهما البريق..
نظرت إليها وسكتت.. لا قدرة لي على الكلام.. لكن ياه ما أجملها.. كم تشعّ عيناها حباً ورقة ولطفاً..
كانت أمي سيدة جميلة، عَطِرة، خفيفة كفراشة.. أحببتها من النظرة الأولى واللمسة الأولى والضمة الأولى والبسمة الأولى..
ووردة من شو بيشكي؟ مو معقولين انتو.. بلا ترجمة للفرنساوي ما بيسوا؟ اعترضت أم جوزيف وهي تسجب سيجارة من علبتها وتدخنها باشتياق.. لا تأبه أم جوزيف بتأثير التدخين على الأطفال أو النساء الحوامل.. تترك سيجارتها فقط في حالتين اثنتين: حين تسحب طفلاً وحين تنام..
وين قهوتي؟ طالبت أم جوزيف..
فقامت جدتي على مضض، لتحضّر فنجان قهوة لأم جوزيف، فهي لم تشبع من النظر اليّ بعد..
أشعلت أم جوزيف سيجارتها، مجّت منها مجّة واحدة، ثم حشرتها بين شفتيها، ثم أمسكت مقصاً وقطعت صلتي بأمي..
لِمَ يسمونه الحبل “السرّي”؟ ما سرّه؟ هل لأن وصله بين الأم ومولودها، لا ينقطع كل العمر؟ ثم يسمونه “خلاص”؟ خلاص ممّ؟ أليس الرحم أهنأ وأرقّ وأنقى وأكثر دفئاً وأمناً وأماناً؟
تأملتني أم جوزيف وأنا مستكينة على صدر أمي التي تلاعب شعري، كنت شاردة فيها، أشعر بكل حنان الدنيا والآخرة..
ألبير.. نادت أمي أبي بصوتها الناعم التعب.. تعا شوف بنتنا..
يوه! يي على عيونك– اعترضت أم جوزيف- خليني رتبك ونضفك ولي على قامتك.. بتخوّفي وبتقرفي كمان..
احمرّت أمي خجلاً.. وفوجئت جدتي بوقاحة أم جوزيف التي تابعت:
– بدك يبطّل يقرب عليكي.. يخاف يقرّب كان لسان أم جوزيف سليطاً..
نظفت أم جوزيف أمي بمساعدة جدتي، بعد أن شربت فنجان قهوتها ودخنت سيجارة جديدة.. ثم جلست ترتاح.. ونظرت إليّ مستغربة..
-“يا محتالة.. ما بكيتي؟ شايفتلك انك مأجلة دموعك لبعدين؟ هاتيها تيريز، هاتيها لهون”.. قالت لأمي وهي بالطبع لم تنتظر جوابها، سحبتني من كعبيّ وضربت مؤخرتي برفق..
أم جوزيف تريد أن تكمل عملية التوليد التي أجرتها بالخاتمة السعيدة المبشّرة بالحياة: صرختي.
ما سرّ الصرخة الأولى؟ لا أعرف..
والدمع الذي انهمر من عيني؟ لا أعرف..
هل آلمتني مؤخرتي الطرية؟ لا أعرف..
هل أنني أكذب في “بكوتي الأولى خوفاً” من أن تقطع أم جوزيف من جديد، لحظتي الجميلة في لقائي مع وجه أمي، حضن أمي، لمسة أمي، ضمة امي، ودفء أمي؟
لا أعرف.
ضحكت أم جوزيف لبكائي الذي كان أشبه بمواء قطة خائفة..
-“أجليهن يا قلبي أجليهن”.. قالت ذلك وهي تبتسم كأنها فهمت ما كان مرسوماً لي..
بكيت كثيراً في ما بعد..
صار اسمي روز على اسم جدتي وردة.. أحببت اسمي وترجمته.
حين ماتت جدتي وردة، خصتني ببيتها الجبيلي العتيق، الذي تركه لها جدي.. بيت حبهما صار مغارة حزني الذي طال.
“هيدا البيت بعد ما موت لروز”.. بكيت حين قالت هذا وضمتني وقبلتني.. لم أكن أريد أن تموت جدتي.. لكن هل ما نريده يكون؟
أحببت بيتها كثيراً.. كان أشبه ببيت من كتب الحكايات.. بيت ساحرة حنونة.. كنت فيه أشعر بأني أميرة.. كنت حبيبة جدتي.. وحفظت بيتها عن ظهر قلب.
بيت مبنيٌّ من حجر صخري. بيت صغير جميل له حديقة رائعة.. واجهته تشبه ما كنت أرسمه في طفولتي على الدفتر، مربع وشباكان وباب.. ثم قرميد وحوله حديقة.. كنت أرى الشمس تبتسم فوقه كالتي أرسمها على الورقة.
لمَ تفقد الشمس ابتسامتها حين نكبر؟
من الداخل، كان البيت عبارة عن غرفتين كبيرتين ومطبخ أكبر، جعلت من إحدى زواياه غرفة جلوس والثانية صالون استقبال، والغرفة الجوّانية هي غرفة النوم.. موقدة حطب وطاولة طعام وكراسٍ خشبية وسطيحة صغيرة فيها أحواض زهور وأخرى للنباتات الورقية..
في المقلب الآخر “ورا البيت”، حديقة زرعت بكل ما تحتاجه من خضار، وكان فيه بضع شجرات.. تفاح، برتقال وعريشة.. ومساكب للبقدونس والنعنع والبندورة والباذنجان واللوبياء والفجل والحر.. كل له موسم.. أحببت الزرع وشغل الكروشيه.. حين كنت أقضي إجازات الأعياد عندها، أو حين تأتي لتزورنا.. كانت تعلّمني تقنية الغزل على الكروشيه أو فرم الخضار لتحضير المونة.. كيف أرتب سيقان البقدونس ثم أضمها بيد وأقطعها بالسكين باليد الأخرى.. وكيف أسحب خيط اللوباء ثم أفقشها بين أصابعي.. كيف أقصقص رؤوس حبات البامية كالقمع..
لم أعرف سرّ القدرة العجيبة بين التقطيع والفرم وبين تمرير الوقت، إلا حين صار بيت جدتي وردة بيتي، بعد أن ضاقت بي الدنيا ودوختني الأيام.. واخترته حبسيَ الاختياري الانفرادي وعشت فيه سنين طويلة من الحنين إلى روزا وأنَس .. كانت سلواي الوحيدة.. أتلو فيها فعل ندامة وصلاة.
يتبع..