..وعاد صوتها عالياً

-“وفاء!! لك سلام من هنادي.. تذكرينها؟! تعدّ لنيل شهادة الدكتوراه وقد تركت وظيفتها لتتفرّغ للدراسة من جديد.. لقد قابلتها للتو في الشارع”!
..لم تعرف وفاء إن كانت سُرّت فعلاً عندما استمعت إلى الأستاذ خليل، رئيس القسم في الشركة، يبلغها التحيات تلك.. هنادي؟! ياه!! مضى زمن طويل لم تسمع فيه أخباراً عنها.. كيف لا تذكرها!! .. آخر مرة التقت فيها الصديقتان، كانت في الصيف الماضي ..
بعد سنوات خمس أو ست أو ربما أكثر من الإبتعاد القسري بسبب انهماك كل منهما بمشاغلها الوظيفية والعائلية المتعددة.. كان لقائهما أغرب من أن تنساه.. تحية جافة بإشارة من اليد.. وابتسامة متعبة ارتسمت على شفتيها.. لم تبادر وفاء بطرح المزيد من الأسئلة للإطمئنان.. ومشت كل منهما بإتجاه..
***
في أواخر عقدها الثالث اليوم.. هنادي بقيت على حُسن يبدو عنيداً خلف خطوط بدأت تظهر تحت عينيها ، فوقهما، حولهما وتشتد عندما تضحك وهي لا تضحك إلاّ من شدة الفرح أو من شدة الحزن..
وعندما تعارفتا، كانت وفاء في أول عشرينها، وهنادي في آخرها.. نمت صداقتهما وجمعتهما معاناة ومكتب واحد.. ورفض كبير لحالات خاطئة.. كانتا تريدان إصلاح العالم …
علمت وفاء أنّ هنادي مكافحة.. ولا مرة صرّحت بذلك، لكن كل ما فيها كان يدلّ على كفاحها.. ركضها المستمر لتأمين المال لرفع العبء عن عائلتها كبيرة العدد وسدّ الثغرات وما أكثرها.. ثيابها كانت تقول ذلك.. تورّم عينيها.. وآراؤها الحادة في كل شيء.. قسوتها أحياناً.. عدم تبريرها لأخطاء الآخرين.. خصوصاً بحقها هي.. كم كان صوتها عالياً حتى إذا همست..
***
شريط الذاكرة أوقفته وفاء عند ذاك الصباح الخريفي الوديع.. على غير عادة.. رقّت هنادي.. صار صوتها ناعماً.. هامساً:
– “وفاء .. أريد أن أخبرك أمراً هاماً.. لا مجال للحديث فيه.. لا في المكتب ولا في بيتي أو بيتك.. أدعوك على فنجان قهوة في المقهى القريب.. على حسابي بعد الظهر.. الساعة الرابعة.. يناسبك حتماً!! سوف أكون بإنتظارك..
في الوقت المحدد وصلت وفاء، وزاد في دهشتها أنّ هنادي لم تسبقها فقط إلى المكان، بل إلى احتساء عدة فناجين من القهوة و..
– “لا .. لمَ تسألين؟!! آه.. تستغربين وكل أعقاب السجائر هذه في المنفضة!! اجلسي .. لا ترهقي أعصابي بعد.. أنا هنا منذ الساعة الثالثة!!
وكشفت هنادي عن سرّها الصغير.. إنّه “العريس” ..
– مبروك..
وبعد أن قفزت وفاء من مكانها نحو هنادي لتقبّلها وتعانقها.. كادت تدمع عيناها من الفرح.. عادت الى مكانها قبالة صديقتها وسألتها بحماسة:
– والآن أخبريني .. من هو؟! ماذا يعمل؟ كيف التقيت به ؟! كيف استطعت أن تخفي أمراً كهذا!!
– لا لزوم لكل هذا العتب- قالت هنادي وهي تخفي سعادتها وبريق عينيها لا يخفي نفسه- اليوم صباحاً عرفت.. اصمتي كي أعرف من أين أبدأ..
***
– إنّه شقيق زميلتنا هدى، تعرفينها، عاد إلى الوطن بعد سنوات من العمل في إحدى الدول العربية.. وقد جمّع ثروة لا بأس بها، وتملك شقة، و.. طلب إليها البحث عن عروس مثقفة.. واعية.. “ست بيت”.. أما العمر فهو مسألة ثانوية بالنسبة إليه.. ألم أقل لك إنّني سوف أجد يوماً حظاً مُضيئاً يغيّر مجرى حياتي؟ ها هو وصلني اليوم صباحاً !!
– “ما مؤهلاته العلمية أو الثقافية”.. وقبل أن تكمل وفاء سؤالها قاطعتها هنادي :
– “هذا غير مهم .. هو حتماً واعٍ، أدركت ذلك من شروطه التي لقّنها لأخته.. ثم رقّ صوتها أكثر.. ما أطيبها هدى.. كنت أظن أنّها تهتم بالمظاهر.. كم ظلمتها”!!
وبكثير من حماسة وانفعال أكملت هنادي وقد لاحظت تعجّب صديقتها:
– لا تنظري إليّ هكذا.. لست مجنونة لكي أُغرم بمن لا أعرف حتى شكله، صوته، حركاته والأهم.. أسلوبه في التفكير وفي تحليل الأمور.. أنا عقلانية.. لم أعد أحلم بفارس الأحلام على حصانه الأبيض، لكن.. (وضحكت طويلاً .. طويلاً) لا بأس بثري لديه سيارة حديثة الطراز وجديدة ولمّاعة.. وأخيراً سوف أستريح من الأسئلة الخبيثة والمواربة التي يصفعني بها الأقارب والجيران والزملاء لكي يعرفوا لماذا لم أتزوج بعد.. وسوف أُريح والدتي من إطلاق الدعاء بأن يعطيني الله حظاً من السماء.. تعرفين يا وفاء ؟؟! لقد تعبت من الجري ومن التعب.. ومن صراخ أبي المتواصل، ومن ضعف أمي، ومن نزق إخوتي، ومن شكوى الجميع.. أريد أن أهدأ.. آن لي أن أستكين في بيتي.. أكون سيدته وسيدة مستقبلي..
***
و.. تحدّد موعد لقاء العريس في بيت أهل هنادي.. ومعاً نزلت الصديقتان الى السوق لتبيع هنادي أساورها الذهبية وتشتري أثاثاً لغرفة الإستقبال، وملابس جديدة للجميع، وضيافة تعبر عن تقدير للضيوف الأعزاء وعن بيت كرم سيدخلونه..
– “عيب !! مقاعدنا اهترأت.. وهي زيارتهم الأولى.. ثم يجب أن يسجلوا انطباعاً جيداً عن أهلي”!
وفي الموعد المحدد.. أتى العريس وأهله.. وخرج الجميع مسروراً.
ومرّ أسبوع.. أسبوعان و.. لم يرجع أحد.. لم تتكرر الزيارة.. وهدى لا تدخل مكتب هنادي ووفاء.. تلقي التحية الصباحية من خلف الباب بحجة انشغالها بالعمل..
مرّ شهر.. وهنادي تأتي كل يوم إلى الوظيفة، حاملة في عينيها علامات استفهام كبرت، كبرت حتى .. استجمعت كل شجاعتها لتصارح وفاء التي لم تجرؤ لحظة على إثارة الموضوع .. فالقلق في ملامح هنادي أكبر من أن تحتمل سماع أسبابه.
***
إلى ذلك المقهى البحري، دعت هنادي وفاء ثانية، على فنجان قهوة، وعلى حسابها، ووصلت قبل الموعد.. مجّت الكثير من السجائر واحتست فناجين قهوة كثيرة.. أيضاً و ..
– كله نصيب!! أثناء خروجه من بيتنا لمح ابنة الجيران، سامية فأعجبته.. تعرفينها تلك الفتاة التي نادتني مرة “تانت هنادي” وزجرتها فردّت انني في جيل أمّها تقريباً.. علماً أنني لا أكبرها إلا بأربع سنوات.. لكنها أنيقة.. تهتم بجمالها ودلالها وماكياجها وشعرها.. هه!! هدى أخبرتني بذلك.. وأكدت لي أنّها لن تقابل يوماً “شابةً” أحسن مني.. لكنه النصيب..
لم يمضِ أسبوع إلاّ وكانت استقالة هنادي مطبوعة، موقّعة.. منطقية ومقنعة ولا رجوع عنها بحجة الإنهماك في إعداد رسالة الماجيستير.. لم يستطع حتى المدير العام أن يثنيها عن عزمها، لا بزيادة على راتبها.. ولا بترفيعها إلى منصب أعلى ..
وانقطعت كل أخبارها.. إلى لحظة “سلام” الأستاذ خليل..
***
وكأنّها تذكّرت شيئاً أو مسّها تيار كهربائي أسرعت وفاء إلى مكتب الأستاذ خليل عندما زارته في مكتبه..
– أستاذ.. سؤال واحد فقط.. صوت هنادي كيف كان؟؟ عندما كلمتك.. أقصد..
ضحك الرجل طويلاً وقال :
– كعادتها .. كان صوتها عالياً .. عالياً جداً!!

حنان فضل الله

التعليقات