ملعقة دواء

الزمان شتوي.. والمكان أيضاً.. وكأنّ الحكاية أرادت أن تكمل فصولها.. هنا بالذات.. في فجر أقرب من أن يُنسى وأبعد من أن يطاله الخيال أو الكتمان.. كتمان؟! هي لم تعد تستطيع أن تتحمل الكابوس.. كل ليلة يلاحقها المشهد ذاته.. وجه والدها الطيب، البسيط حتى سذاجة، عدم حمل العلامات الفارقة في الفعل ورد الفعل.. يوقظها من نومها!! لا.. هو يتسلل إلى أحلامها.. كل ليلة.. كل ليلة.. ولا يخرج إلاّ مع أعلى صراخ يمكن لها أن تقوله “كفى”!
فجر هذا اليوم.. رمادي.. ثقيل..
مطر يقرع زجاج نافذة غرفة نومها.. وزوجها في نومه الثقيل.. لقد اعتاد كوابيسها والصراخ وبعد عامين على معايشة حلمها “المزعج”.. ها هو يغط في سباته.. وكأنّه أدرك أنّه في الليلة المقبلة.. ستستمر الحكاية … لكن لصراخها هذه الليلة.. صدى الوجع والقلق والخوف ..
تركت سريرها وتوجهت إلى النافذة “يا إلهي.. ما العمل؟ كيف كان هذا.. كيف وصلت الأمور إلى هنا وهنالك؟!”.
شريط الذكريات عاد بها إلى الطفولة، إلى المراهقة.. إلى شبابها الأول.. وحيدة والديها اللذين لا يجمع بينهما سوى التناقض..
هو رجل بسيط حسم مسألة الطموح نهائياً، له عادات يومية محددة في مواعيد مضبوطة.. لدوائه، وقهوته، ونومه ونشرة الأخبار معان توازي ما يريده من الحياة..
ولها- والدتها- جمالٌ أخاذ يثبت في كل مرة الفارق الشاسع في السن بينها وبين الزوج..
لقد أدمنت سماع الإطراء وتحسّر الجيران على شبابها المدفون حيّاً مع “عجوز مثله”!! والبنت كانت مثل والدتها.. على جمال باهر، كلما كبرت.. كبر ابتعادها عن والدها.. لقد أحبّت أمّها وتباهت بحسنها، فمن مَدَح الأم طال البنت.. وسيء الحظ كان.. موضوع المقارنة..
الآن.. ها هي تتذكر يوم عادت من المدرسة القريبة باكراً إلى البيت، لمرض فاجأها في قاعة الصف، وجدت والدتها تحادث شاباً من على الشرفة.. لم تسألها عن هويته.. ولم تبرر والدتها الأمر.. وتتذكر غباءها الذي جعلها لا تتنبّه إلى علاقة موصولة بين الماضي والحاضر، العلاقة المتينة إلى أجل غير مُحدد بين والدتها والشاب.. وتتساءل إن كانت هي النبيهة بين رفيقاتها تجاوزت الإشتباه ولم تشأ الملاحظة..
وتتذكر أيضاً، كيف أنّ خروج والدتها من المنزل في موعد نوم والدها قد أصبح عادة يومية.. وكيف تحوّل الأمر إلى عواصف من غضب يواجه بها الزوج زوجته كل ليلة.. عندما ترجع متأخرة..
تتذكر كيف هدّدها وضربها وصار يصرخ ويرغي، وتتذكر جيداً ما ساقه من اتهامات خطيرة حول خيانة زوجية “سوف تدفعين ثمنها.. سأقتلك وأقتله..”.
تتذكر كيف دافعت عن أمّها الجميلة التي “ضحّت لمجرد ارتباطها بعجوز مثلك”..
تتذكر كيف اعترفت لها والدتها ذات صباح بأنّ لها حبيباً يريد أن يتزوج منها.. ولكن وجود والدها يمنع التقاء الحبيبين.. وكيف “اقتنعت” وهي التي ترى أنّه “لا يجوز لأحد أو لشيء أن يفصل ما بين قلبين”..
بكت والدتها على كتفها.. وأثّر فيها صوتها المتهدّج.. “ماذا أفعل؟”..
ها هي الآن.. تتذكّر شخير والدها.. وهي تقترب من سريره.. توقظه من نومه لتناوله الدواء في ملعقة.. صحيح أنّها المرّة الأولى التي تناوله فيها دواء أو تنتبه لمرضه المتأصل.. لكنه شكرها ونظر إليها بعينين ممتنّتين أنساها محتوى الملعقة في لمحة و.. نام..
تتذكر الآن.. كيف بكته والدتها بحرقة موجعة.. وكيف أُغمي عليها من شدة الحزن.. وكيف.. وكيف..
وكيف التقت والدتها بذاك الشاب بعد انقضاء أسبوع ..
هي الآن.. تتذكر كيف دخل بيتهم.. وصار واحداً من العائلة.. بل هو العائلة.. وكيف نزعت والدتها صورة “المرحوم” عن الجدار العتيق ، وكحّلت عينيها وصارت ابتسامتها أصفى وأصبح الشاب.. عمّها..
ولا مرّة.. لم يزرها وجه والدها وعيناه الممتنّتان.. دخل أحلامها منذ الليلة الأولى لزواجها كل ليلة.. كل ليلة.. تعطيه “الدواء” ويشكرها بنظرة.. ثم ينام.. وفي كل مرة يسألها زوجها السبب، ترتبك ولا تُجيب إلاّ “كابوس.. فظيع”.. حتى نصحها بالذهاب إلى إحدى الجارات المشهورة بصنع “الحجابات”..
لم تنسَ وجه والدها الخالي من التعابير.. طيلة حياته كان كذلك.. إلاّ يوم تناول “الدواء”..
كم كان طيّباً كطفل.. يا لعينيه كم قالتا ما لم تسمعه بأذنيها.. كم أدركت لحظتها أنّها أحبّته..
هو رفيقها منذ ثلاث سنوات.. يدخل نومها ولا يخرج من عتمته إلاّ على صدى صراخها البائس..
– “قتلته.. قتلته” ..
– “سامحيني.. لم يكن باستطاعتي أن أراقب إعترافك عن بُعد” ..هذا صوت زوجها.. لماذا يقف أمام القضبان؟
– لقد بلّغت الشرطة بكل ما سمعته منك الليلة الماضية.. سامحيني.. لقد ألقوا القبض على والدتك وزوجها- عشيقها.. أنتم الثلاثة تواجهون تهمة القتل والتخطيط له والتحريض عليه.. لماذا؟!
اختلط عليها الزمان والمكان.. والدمع..
لكنها الآن، استعادت كل ما عاش في ذاكرتها.. هي خلف القضبان.. لتواطؤ بجريمة قتل.. تستحق عقاباً.. تستحقه..
سوف تستريح.. ستنام ملءَ جفنيها.. كما لم تنم منذ وقت طويل .

التعليقات