في أول إطلالة بعد الكارثة، الإعلامية هلا حداد عما جرى و.. عمّن غطّى الجثث بأغصان الشجر

سوف يمرّ وقت طويل قبل أن تتناسى ما جرى.. سوف تمرّ ليالٍ صعبة قبل أن تُغيّب عن البال تلك المشاهد التي حفرت في الذاكرة الموجوعة ندوباً عميقة.. هل تلتئم؟

لم يكن سهلاً ما حدث.. كان حرّاقاً للقلب وسيبقى..

ما جرى مع الغالية هلا حداد أكبر من أن يوصف وأصعب من أن تقدر كومة كلمات على وصفه..

قصدتها بأسئلة قليلة، تطمئن من خلال إجاباتها عنها ناسها ومحبيها.. مع خجلي من نفسي في أنني في كل مرة أنكأ جرحاً موجعاً في كيانها الرقيق.. هي الملاك الحارس لأبيها الذي سارعت إلى حمايته بجسدها فكانت إصابات في كالم جسمها الطري.. وبه امتلكت شجاعة القديسين، في حمل وزنات ألم وجروح، قد تبقى لوقت، لكنني أعرف تمام المعرفة، أنها ستقدمها شراكة لآلام السيد المسيح وكل نبلاء الإيمان الحقيقي، قرباناً في خدمة الخير..

صديقتي هلا.. لك كل الاحترام، وقبل أن أنشر ما جرى بيننا من “دردرشة”، لا تتأخري في العودة.. ولا تتركي فراغاً إعلامياً في زمن يغزل فيه خصيان المهنة على مغزال الشرّ والحقد واللا موضوعية.. كوني بخير وعودي أقوى..

حنان فضل الله

 

بداية، طمنينا.. الناس ممن انشغل بالهم عليكِ.. ما الذي جرى؟

“صعبة الواحد يستوعب يللي صار، بعد بكير”.. لكن بجد ودون مبالغة كان فيلماً كارثياً غريباً ما عشناه، لأنه خارج المنطق والعقل.. يوم الكارثة، كانت زحمة سير كثيفة وغريبة في محيط المرفأ، “كان عندي دقات قلب غريبة.. صرت قول بدو يصير شي”، وكان في الجوّ صوت طيران غريب، وصلت الى المدخل وانتظرت عشر دقائق حتى اتمكن من استعمال الاسانسور لأصعد الى بيتنا في الطابق الخامس،.. “سمعنا لبدة قوية ثم تانية وصوت طيران، ركضت على غرفة الوالد وناديت ابنتنا ميمي (الصبية الأثيوبية التي تساعد عائلة هلا في الشؤون المنزلية) ونشكر الله أنها غادرت غرفتها التي لم يبق منها شيء، وطلبت منها أمي أن تبقى في الكوريدور، خلال وجودي في غرفة أبي، طلع الانفجار الكبير وبطلنا نعرف شو عم يصير، وقع كل شيء علينا، الزجاج، الخزائن، الحيطان، كل شي.. وحين يقولون “دمار شامل” أصدقهم، حصل عندنا الدمار الشامل.. صرخنا طلباً للمساعدة وفكّرنا انو بس صار اللي صار كل واحد فكر يك.. خرجت من البيت، ورأيت الجيران والإصابات، وأبوابهم وشبابيكهم المخلّعة، ومشيت ولا أعرف إصاباتي، وخلفي ميمي المصابة أيضاً.. ما قوّاني أنني عرفت أن أبي وأمي وضعهما أفضل مني.. مشيت من بيتي في مار مخايل ولم أستطع الوصول إلى مستشفى الوردية، كنت أصرخ طلباً للصليب الأحمر، لكن من يمكنه الوصول وسط الركام؟ أشلاء البشر في كل مكان.. حاولت الوصول إلى مستشفى الروم،  لم يتمكنوا من استقابلنا، ولا أعرف كيف استطعت اتجاوز كل تلك الإصابات البشرية وأن أعبر بينها.. (تسكت قليلاً لتسترد أنفاسها، ابنه أختي نايا وافتني إلى الحكمة، “رموني” ميمي وأنا في سيارة، وصاروا “يدوروا فينا من مستشفى إلى مستشفى التي بان عليها الانهيار العصبي من جراء ما عاشته وعانته حتى اللحظة، في السيارة، رموا إلى جانبنا جثة.. لم أستطع تحمّل وجود جثة بالقرب مني، رأس الجثة بالقرب من رأسي.. “نزلت من السيارة ما قدرت اتحمل الوضع فيه جتة حدي راسي عا راسا”..

تجربة صعبة ومرة وفيها خسارات مادية كتير

“قديه بتقولي الخسارات المادية كبيرة ومهمة؟”.. لكنها لا شيء.. لا شيء بل هي نقطة في بحر الدم الذي رأيناه، “بركان دم وتفجر”.. (وتكرّر مع تأثر شديد وبكاء): “شفنا اشلاء الناس على الطرقات”..

لا شك في أن التعويض يكمن في محبة الناس وبالسلامة ولكن..

محبة الناس كتير مهمة لأنها تعطي الدفع المعنوي الكبير، انا اليوم أرفض وقراءة سماع الأخبار كما كنت أتابع من قبل، لا يمكنني أن أرى صورة أو أن أقرأ نصاً خبرياً، لا بيهمني أن أعرف ما جرى “يللي صار كتير كبير”..

ماذا علمتكِ التجربة؟ 

أسمع عن محبة الناس وتضامنهم.. هذا هو الأساس.. وهذا ما أحب سماعه، أهلي.. أمي أبي أخوتي وأخواتي وأولادهم جميعاً، كتر خير الله، أخي الذي علق بالأسانسون حين الكارثة، بخير وكتر خير الله.. لا يمكنني وصف ردة فعل أمي التي قالت “كل بيت صار عالارض بيتي” هي التي اعتبرت أن بيتنا للي راح ليس أغلى من أرواحنا وأرواح الناس..

 

حين تعودين إلى الإذاعة، صوت فان التي نهنىء أسرتها العزيزة بالسلامة ما أول ما تقولينه للناس؟

 

صراحة.. لا زال أعرف متى، “فيه شي براسي مش مركز.. عندها؟ ما أول ما أقوله؟ ربما لن أقول إلا شكراً لكل من سأل عني، كل الناس الذين دعموني باتصالاتهم للاطمئنان عني، سؤالهم عني، صلاتهم لي ولأسرتي.. من عرضوا بيوتهم وإمكاناتهم..

ثم تختم بكثير من تأثر..

“أخبرتك عن واحد بالمئة مما مررنا به، جثث واشلاء، مصابين وضحايا.. شهداء شهداء شهداء.. دم ورماد.. حطام حطام.. وشجر مكسّر محروق، ولا عن بحر الزجاج الذي مشينا فوقه، بـ “مشاية قماش”.. “خردقني” الزجاج من فوق إلى تحت.. ولكن بقيت قدماي سليمتين.. كيف؟ الله وحده يعرف..

“لم أخبرك عن ميمي التي شكرت يسوع أننا لا زلنا على قيد الحياة، وأنها بكت تريد أن تحكي أخاها..

“لم أخبرك أننا ذهبنا إلى المستشفيات لطلب العناية الجراحية، وكان هناك عشرات الضحايا الموتى الشهداء.. 

لم أخبرك عن الشاب الأفريقي الذي وسط الكارثة، سارع إلى تغطية الجثث بأغصان الشجر المكسورة..

 

 

التعليقات