كعادته في كل صباح ، وقبل خروجه إلى عمله في المصرف ، يقبّل يوسف يد الحاجّة “أم يوسف” ويطلب رضاها، يلملم طاولة الصبحية، ويتمنى أن يصحّ فنجانها الذي لا ينزل الأرض..
” من زغرتك هني يا يوسف ومرضي.. روح الله يرزقك ببنت الحلال اللي بتعرف قدرك وقيمتك !!” .
على صدى دعائها، خرج يوسف وكالعادة، ساعد الجارة، زوجة مدير المدرسة، في حمل أكياس النفايات بكل طيب خاطر، مع أنه أصبح مقتنعاً بتوقيتها المدروس.. كذلك، يعاون بنات جاره الحلاّق الصغيرات في حمل حقائبهن، على مرأى من والدهن الذي صار يعبّر عن خجله الكبير من “الأستاذ” بإصراره على رفض تقاضي أجرة الحلاقة.. “وَلَو أفضالك كثيرة علينا يا أستاذ يوسف !!”.
خدوم يوسف ، متحمّس لفعل مساعدة الزبائن كما الجيران .. ولخبرته خلال خمس سنوات، صار يعرف حاجة الزبون من مشيته، حركة عينيه ويركز اهتمامه على زبائن الإيداع والحوالات وضم الفوائد من وجوههم، ويدرك إمكاناتهم، ومن حساباتهم يعرف مكانة كل منهم، و.. الناس لبعضها .
علاقته بزملائه.. إبتسامات صفراء.. يصفونه بالإنتهازي، صياد الزبائن والفرص. أما زميلاته فبينهنّ وبينه ودّ مفقود وحذر، لقد تقرّب من كل واحدة منهنّ على حدة، فقط.
والباقي, حرصه على سمعة المؤسسة، جعله مقرّباً من الإدارة والرؤساء .
عندما دخلت هيفاء، هذا النهار، لم ترَ إلاّ الموظف الخدوم اللطيف الذي ساعدها على فتح حساب مصرفي “بأصغر مبلغ شهده المصرف في تاريخه.
له مكانته يوسف، لقد تخطى نظام المصرف لأجل عينيّ ، ووعدني لزيارة لي في المستشفى أثناء الدوا”. كما أخبرت والدتها عند المساء ..
لم يمض يومان إلاّ وكان يوسف في المستشفى ، يسأل إحدى الممرضات عن الآنسة هيفاء…
حسدتها زميلاتها الممرضات على شياكته ولطفه و.. عبارات التودّد التي يخصّها بها أمامهن. صارت زياراته تتكرر وكذلك إتصالاته الهاتفية.
– “متى الخطبة!؟” يسألها الجميع فلا تجيب وقد أحرجها السؤال .. فيوسف لم يصارحها بشيء مع كل إهتمامه بها.
مع يوسف، صارت هيفاء أحلى.. وإجتماعية ، تلبّي دعوات الصديقات المقرّبات، ومعاً حضرا خطبة ياسمين ووجدي، وزفاف سلوى وسامي ، وهنّأا ألفت وعماد على ولادة ابنتهما “هبة”… وكأنّ يوسف صار جزءاً من الشلة.. يسأل عنه الجميع ويهتم لآخر أخباره كل الزملاء.. يسألون هيفاء عن الخطبة ..
مع مضي الشهور، تبيّن لهيفاء أنّ ليوسف شخصية تستنكرها..
-“هو بخيل .. لم يحاول مرة أن يدعوني إلى فنجان قهوة.. في مكان عام.. بالإضافة إلى ذلك، قناعاته ، أفكاره عن الممنوع والمسموح والعادات والتقاليد و.. آراؤه حول المرأة وفيها لم تعجبني “..
لكن ياسمين أقرب صديقاتها أكّدت لها بأنّه عليها تقبُّل الواقع والتنازل عن بعض عنادها “لا أحد كاملاً يا هيفاء .. لقد تجاوزت سن الدلال لا تنسي أنّ عمرك 34 سنة .. عليك كسب ودّه .. وإقناعه بالزواج منك.. هل خطيبي وجدي يعجبني في كل شيء، أم عماد زوج ألفت، أو سامي عريس سلوى.. تعقّلي ! ثم أنت العازبة الوحيدة بيننا ، كبّري عقلك وتصرّفي قبل فوات الأوان..”.
وحاصرتها الصديقات، وأقنعنها بجذب يوسف إليها، واستدراجه إلى الزواج.. ” أنت وشطارتك. ربما كان خجولاً أو متردداً في مفاتحتك بأمر الزواج.. شجعيه !! “.
واقتنعت هيفاء .. عدّلت من طبيعتها لتناسب قناعات يوسف، حتى أنّها كانت تبتلع غضبها كلما عرض آراءه أمام الشلّة وتتبادل النظرات مع الصديقات.
ودوماً ، كان يسألها ” الحاجّة (ويقصد والدته) تودّ التعرّف إليك، متى تشرفيننا بالزيارة؟!” ودوماً، دوماً، كانت تستغرب العرض وتكرّر.. ” أتشرف بزيارتها عندنا !!”.
لم تعد هيفاء كما كانت، لا مبدأ تدافع عنه، ولا قناعة تدعمها بحجج. لم تعد تناقش الخطأ وتدافع عن الصح. حتى كادت تصبح ظلاً، وكادت تصدّق أنه يجب أن تكون المرأة أضعف من الرجل ليحبها ، وأقل منه ثقافة ليعجب بها، و.. من ثم يتزوج منها!!!
وازداد نفورها منه. لكن هل يسمح لها كبرياؤها بسؤاله عن الخطبة ؟!
لم يحضر إلى السهرة التي دعته إليها في منزلها مع أفراد الشلة. كان عماد وسامي ووجدي اتفقوا مع ألفت وسلوى وياسمين على إحراجه بالسؤال عن موعد الخطبة..
لم يتجرأ أحد على سؤاله عنه منذ ذلك الوقت.. اختفى و.. اختفى.. ولم يصدقها أحد عندما أكدّت أنّها: “الآن استعدت ثقتي بنفسي.. كم شعرت بدونيتي لأني اقتنعت بالتمثيل والكذب على نفسي والجائزة؟!- أضافت بسخرية – عريس خدوم .. بخله اقتصاد وتدبير وغباؤه قناعات ؟!!”….
بالصدفة.. كان يجب أن تتم الصدفة .. علمت هيفاء أنّ يوسف تزوّج من امرأة تكبره سناً..أرملة و.. ثرية.. دخلت ذات صباح إلى المصرف لنقل حسابات المرحوم الى حسابها الخاص.. كم ارتاحت عندما علمت – بالصدفة– أنّه يعيش بقناعات زوجته. يصمت عندما تتكلم. لا يجادل. لا يناقش. لا رأي له ليعرضه. كم أنّ الأمر يعنيها؟!
لقد صار ظلّ رجل..