رواية “بين هنا وهناك”.. الحلقة الأخيرة

وأشمّ عطر أنَس..

جاء أنَس يزورني في موتي المؤجل هذا..

ها هو يقف خارجاً.. مكسور القلب.. ينظر إلي من الزجاج الخارجي..

ثم يدخل..

ياه.. كم أشتقت إليك يا أنَس..

ها أنا أغادر زاويتي لأقترب منك.. ألمس شعرك، عينيك، يديك.. كتفيك.. ولا تشعر بي..

ها أنت تقترب مني.. تتأملني.. وأنا جامدة كتمثال شمع..

ها أنت يخرسك منظري، ممدة على سرير في مستشفى، نقلتني إليه بيديك.. مرغت وجهك في شعري وأنت ترجوني طوال الطريق، من حريصا الى المستشفى، أن أكلمك.. أن أفتح عيني..

هدّ غيابك حيلي يا أنَس.. هدّت كذبة أمك عمري.. انسلّت مني روحي حين اختفت روزا.. تهدّمت كل حياتنا بكذبة واحدة وفراق طال.. طال كثيراً..

ألا تسمعني؟

ها أنا اقترب منك.. أقف إلى جانبك فوق شبه جثتي هذه..

لا تبكِني.. بي سكينة لا تشبه إلا وصفها.. بي طمأنينة لم أعرفها من قبل.. كل ما هو حولي منير..

أراك لا تقوى على كلام.. حزنك يقطر من عينيك ومن أطراف شفتيك ومن اهتزاز كتفيك..

تقترب من تلك الـ أنا وتمسك يدها.. يدي، ثم تلمس وجهي، ثم تنحني وتطبع قبلة طويلة على جبيني..

-“روز.. روز حبيبتي. بيقولوا اللي في الغيبوبة بيسمع.. اسمعي.. أنا جاي اقولك ان الاطبا لسه ما فقدوش الأمل.. مش حا يقدروا يعملوا عملية وانتي.. انتي في الحالة دي.. لكن هم بيحاولوا يدّوكي الأدوية اللي توقف انتشار المرض.. ارجوكي انك تقاومي.. أرجوكي ما تموتيش.. انا لسه ما تهنيتش بيكي.. عاوز اتهنى بيكي وهنيكي.. عاوزين نفرح ببنتنا.. روزا..

ثم يخرج صوتك مخنوقاً:

-ليه يا رب ليه.. ليه إحنا؟ ليه روز؟ ليه روزا؟ إحنا عملنالك إيه؟ خدنا منك ايه؟ بتنتقم مننا ليه؟ مش انت اللي بتحدد مصير الناس؟ قررت مصيرنا كده ليه؟ ذنبها ايه روز تترمي بالشكل ده بين ايديك؟ ذنبها ايه ما تتهناش ببنتها اللي ما عرفتهاش؟ فين عدلك؟ فين رحمتك؟ هي جبروتك ما تمشيش إلا على الضعفاء!!

اقترب منك.. أضع يدي على فمك لتسكت.. أفهم غضبك، لكن هي مشيئة الله ولتكن مشيئته..

ثم اراك تهدأ.. وتمتم: استعفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.. استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم..

ثم تخرج من الغرفة هارباً..

أناديك أن ترجع فلا تسمعني.. فأجدني أسرع خلفك.. أركض فلا أسمع وقع خطاي..

ها أنت تخرج من المستشفى.. تسرع الى الطريق.. تستوقف سيارة تاكسي وتطلب من السائق أن يوصلك إلى أقرب جامع..

أنا معك.. أنا معك.. أمسك يديك الباردتين.. ألمس جبينك الذي غطاه العرق.. ما أجملك يا أنَس  .. ألمس شعرك واشعر بي أبتسم.. ابيضّ بعض شعرك يا جبيبي؟ ما أحلاك.. ليتك تشعر بي.. ليتك تعرف أنني بقربك.. لتطمئن. أنا هنا بخير.. تلك الـ “أنا” الممدة على السرير، هي المريضة.. هي التي غزاها السرطان.. لم تعرفوا ذلك بعد.. لكن أنا أعرف..

وتصل السيارة إلى أقرب جامع.. وما أبعده..

وتنزل منها طالباً من السائق أن ينتظرك، مهما طال الوقت..

أراك تسرع الى المدخل.. تخلع نعليك وتدخل.. ثم تجلس على الأرض.. أقف عند الباب أتأملك.. تبكي بحرقة.. في المكان رجال وشبان يصلون خلف إمام المسجد.. وأنت جالس في مكانك..

وها أنا أرى شيخاً جليلاً مجللاً بالهيبة.. يدخل القاعة.. ينظر إليّ ويبتسم.. كيف انتبه لي ولم تستطع أنت؟

أراه يجلس بقربك.. من وجهه يشع نور جميل.. يبادرك:

– لا إله إلا الله..

فتجيب بانكسار

  • محمد رسول الله
  • الله لما بيبتلي الإنسان.. يقول لك الشيخ الطيب بحكمة نقية.
  • بس يا مولانا..
  • بعرف بعرف.. وقت اللي بيوقع البلاء.. خلينا نفكر بالعبرة..

اراك تخفض رأسك وتغمض عينيك.. كيف لهذا الرجل المسن أن يفهم عذابك وجرحك؟

ويتابع كأنه يقرؤك:

-في قلبك إيمان كبير.. انا شايفو.. فتش عن العبرة.. بس تلاقي العبرة.. بيبرد قلبك.

ثم يقف الشيخ الجليل ويتجه نحو الباب.. أشعر بقوة حضوره.. وبابتسامته وباختفائه..

واراك.. ترفع رأسك لتجيبه لكن لا تجده بالقرب منك.. وتتساءل؟ هل كان مجرد رؤيا؟ واتساءل معك.. لكنه ابتسم لي.. رآني، انتبه لي..

من هو ضيف كوماي هذا؟ من أرسله ليحكي مع أنَس؟

أحب أن أرافقك في شرودك الليلي.. لكن أجدني في المستشفى.. أتأمل جسدي منزوع الحيلة.. كيف عدت الى هنا؟ لا أعرف..

ما أعرفه أنني أرى روزا وسالي تقفان قرب السرير.. اقترب من روزا ابنتي.. ياه كم تشبهنا..  هي تتأملني.. خيّب الزمن أملها..

-يجوز كده يا تانت سالي؟ ما لحقتش اتهنى بيها.. ليه؟

-عم بيقول الدكتور يوسف انو اللي صار معا تعب وإرهاق واللي زاد عليه الصدمة العاطفية القوية اللي صارتلا لما شافت أنَس.. تطمئن سالي روزا الحبيبة.

-يعني فيه أمل أنها تفوق؟

-الأمل بالله حبيبتي.. ما تخليها تشوفك هيك..

وتنظر روزا الى سالي مستغربة..

-ايه ايه.. ما تستغربي.. هي أكيد معنا وعم تسمعنا بس كيف بدي قلك؟ نحن ما فينا نشوفا.. خلينا نصلي.. تعي معي حبيبتي خلينا نضهر ونتركا ترتاح.

سالي لم تخبر روزا أني مصابة بالسرطان.. اتفقت مع أنَس أن لا يقولا شيئاً عن مرضي..

حبيبتي روزا لن تحتمل موقفاً بهذا التعقيد..

أنا الآن في كوماي.. لا أعرف كم مرّ عليّ من الوقت..

أنَس  يبجث عن العبرة في ما جرى لي.. لنا..

قرر أن يفتتح مكتباً لشركاته في بيروت، وأن يشتري بيتاً لنا.. لعائلتنا الصغيرة. وأن يقوم بأبحاث عن مرض السرطان، ليفهم عدوّه..

بناء على طلب الأطباء، صارح أنَس  روزا بمرضي، انهارت بالبكاء لكنها تماسكت، وقررت أن تقدم معرضاً فنياً في بيروت يعود ريعه للأبحاث عن مرض السرطان.. سالي شجعت وقررت أن تفتح الصالة الزجاجية في جمعيتها، لتقيم روزا معرضها هناك..

أما طوني، فقد أحب روزا كثيراً..

من جهتي لا أمانع مطلقاً أن تتبع ابنتي نداء قلبها.. لكن هل يقبل أنَس؟

لا أعرف بعد..

آمل أن لا يكسر قلبها..

أنَس  حبيبي أنا.. لكنه والد روزا.. من زاويته.. هل للحب “المختلف” مكان؟

هل نعود إلى دوامة رفض الآخر؟ لا أعرف بعد..

معلقة أنا في كوماي.. أرى أيدٍ ناصعة تلوّح لي.. أرى ملامح أمي وأبي وجدي وجدتي.. أرى ريتا وكريستينا..

يلوحون لي أن تعالي..

لكن.. هل آن أواني لأعبر النفق حتى آخره وما بعد آخره؟

لا أعرف..

النهاية

 

 

 

التعليقات