رواية “بين هنا وهناك” الحلقة 10

أراك الآن يا أنَس.. تطلب من سائق سيارتك أن يأخذك الى كورنيش النيل.. وأن يغيب عنك “ساعة، ساعتين، تلاتة”.. “مش مهم محتاج أبقى وحدي شوية” كما قلت له بالحرف..

لم يسألك السبب.. ليس لأنه لا يجرؤ، بل لأنه احترم قداسة كتمانك لكل ما تقوله عيناك ووجهك، ولا تستطيعه الكلمات.

أراك الآن يا أنَس .. تقف مطلاً على النيل العظيم.. وتبكي تبكي طويلاً..

أرى المارة ينظرون إليك.. يا عمري.. تبكي حزناً وفرحاً..

روز على قيد الحياة؟ روز لم تمت؟ أسمعك الآن تردّد:

-“ربنا يسامحك يا أمي.. ربنا يسامحك.. ليه عملتي كده ليه؟ ليه؟”

حين عاد سائقك بعد ساعة فقط.. أسرع في العودة لأنه يحبك.. ومن لا يحبك يا أنَس؟

مشى إليك ليقلك الى الفيللا.. وافقت.. وفور وصولك، طلبت الى الخدم، بلطف حازم، أن ينقلوا أغراضك الخاصة الى الطابق السفلي للفيللا.. حيث كان مكتب والدك..

-إيه؟ استغربت ليلى هانم وارتعبت سعاد..

لم يجرؤ أحد على ردّ قرارك..

فهمت ليلى هانم وسعاد أن أنَس عرف الحقيقة المكبوتة لربع قرن.. وتحسباً لردّة فعله..

أعرف أن سعاد فرحت كثيراً بموتي المزعوم، واطمأنت أنني تحت التراب أو أنني تشظيت، صعب على أنَس  أن يلملمني ويتحسّسني.. قبلت أن أعيش في ذاكرته، لكن أن أنبض بالحياة، ان يتنشق ذكري مع كل طلعة نهار.. فهذا صعب عليها.. صعب جداً..

عاشت سعاد مع أنَس ، بإرادة ليلى هانم، لا برغبة منه، كان ممتنّاً أنها تحب ابنتنا روزا، هي أحبتها لأجله.. فقط لأجله وليس لأن قلبها محبّ أو أن روزا تستحق.. فقط لأجل أنَس ..

ظهّر خبر عدم موتي، الكثير من انحرافات المشاعر.

لم تستطع سعاد ابتلاع فاجعتها بانتقال أنَس من الغرفة التي شغلاها معاً، غريبين.. لكن تحت سقف واحد، وخلف باب واحد..

ها هي واقفة عند شباك غرفتها تراقب ليلى هانم في الحديقة وتفكّر بأنَس ويربكها الغيظ مني.. أسمعها تقول في سرّها: يا ريتك مُتّي يا روز.. هه..

وهل كنتُ حيةّ يا سعاد لتتمني موتي؟

رتب الخدم جناح أنس الجديد، ونقلوا كل أغراضه.. بين عتمة ليل الأمس ومطلع الفجر.. رُكّب سرير وخزانة ورتبت دادا مديحة و كل ملابسه وحاجياته الخاصة فيها.. ثم ثُبت بارافان فاصل عن المكتب الذي نقل بكل أثاثه الى الجهة المواجهة للباب الزجاجي المقوّى..

صار لأنَس جناحه الخاص.. عالمه الخاص الذي يسرح فيه بي وبذكراي..

حبيبي روحي وعمري وقلبي يا أنَس.. يا شوقي إليك.. يا غصّة قلبي عليك وعلينا..

حين غادر الجميع مشكورين جداً وبسخاءٍ على تعبهم.. لم ينم أنَس .. كنت في باله وعينيه.. كلما فكّر بي، ابتسم.. أعرف أنه يريد أن يعوّضني عن كل عذاباتي.. وسيفعل.

رتبت لي سالي بمساعدة صديقها الدكتور يوسف، موعداً مع اختصاصي في الأمراض السرطانية.. من دون شرح طويل.. كان لا بدّ من إجراء استئصال كامل للثدي، مع وجوب إجراء علاج بالأشعة مع ضرورة إجراء فحص بعد ستة أشهر..

كل هذه التفاصيل لم تكن لتعنيني، لم أكن لأوافق على فاصلة فيها، لو لمْ أرَ في منامي روزا وأنَس يدقان باب البيت، بيتي أنا، هذا البيت، بيت جدتي وردة..

لو لم أراني في فجر المنام، أفتح الباب، وأجدهما أمامي.. ثم استيقظت.. لا.. رفّ قلبي..

هل كان هاتف من عالم الغيب. ربما..

هل كانت إشارة لخبر طيب؟

هذا المنام جعلني أوافق على إجراء العملية.. أكثر من أمل زرعته سالي.. لن أموت قبل أن أرى روزا.. هذا سحر؟

لم أخفِ عن سالي كل منامي، أوحت لي أنها صدقتني.. سالي تعرف أن الأمل يجترح المعجزات.. قبل يوم واحد من إجراء مزيد من الفحوصات ومن ثم العملية..

أعرف أن سالي لاحظت تبدّل ملامحي من يأس مطبق إلى وعدٍ بفرح آتٍ..

احتارت كي تكافئني على أملي المولود.. فقدّمت لي فرصة زيارة صرح السيدة العذراء في حريصا..

وهناك سنشكر الرب على نعمه كلها.. نعمة التجربة، ونعمة الاستسلام لمشيئته..

هناك.. سألتقي بروزا وبعمر..

لقد تعرّفت روزا ابنتي على شاب رائع، خريج قسم الهندسة المعمارية من الجامعة اللبنانية، وبدل أن ينتظر فرصة العمل، انتسب الى مكتب تاكسي، حيث يعمل سائقاً بينما يبحث عن رزقه أو حبّ عمره.. التقت به في المطار، ليلة وصولها إلى بيروت.. أعجبته كثيراً.. كثيراً جداً.. لدرجة أنه أحبها.. لا عيب في طوني.. سوى أنه مسيحي..

ألم أقل لكم إن التاريخ يعيد نفسه؟

خبّرته قصتها مع أم فقدتها وهي طفلة، بفعل كذبة، ومنظور تعصّب لا تريد أن تفهمه ولا أن تبرّره.. وأنها جاءت من مصر لتبحث عنها.. ووعدها أن يساعدها، بشرط أن توافق أن يصطحبها الى حريصا ويريها من فوق، روعة الخالق في الجغرافيا اللبنانية.. وقبلت.. هل تتقاطع الأحلام وتتسخّر اللقاءات والظروف، ليكون ما يجب أن يكون؟

من ثلاث زوايا وصلنا.. أنا من بيتي في جبيل.. وروزا من الفندق الذي تقيم فيه في بيروت، وأنَس الذي اتصل بروزا ليوافيها في رحلة البحث عني..

أرانا الآن نحن الثلاثة.. أنا مع سالي، أصعد الدرج الذي يوصل الى قدمي تمثال السيدة العذراء، يكاد نفسي يتقطع.. وروزا تجلس على حافة الباطون، ترتاح.. وأنَس الذي حجز مكاناً في أول طائرة آتية من القاهرة إلى بيروت، ليشارك روزا في البحث عني.. اتصل من المطار بروزا ليخبرها قراره، فأرشدته إلى مكانها.. ها هو أنَس يصل بسيارة تاكسي إلى المطار..

ها أنا ألتقط أنفاسي اللاهثة.. وسالي بالقرب مني تشعر بالخطر وباقتراب سوء حالتي.. اسمعها تناديني:

-روز روز.. خليكي معي.. قوليلي شو حاسة.. رح إحكي يوسف.

كنت أشعر بضغط كبير في رأسي، يمنعني من فتح عيني.. كان ضوء النهار يضايقني.. والألم يعصر جسمي كله.. كنت جداً مريضة وتعبة.. كنت أشعر بارتخاء مميت..

أرى الآن، من كوماي المباركة، التي جعلت حياتي عرضاً مفتوحاً على المرّ والحلو، كل ما جرى..

يطلب يوسف من سالي أن تأتي بي فوراً الى المستشفى، وأن تحاول إبقائي على قيد الوعي.. سالي التي لا تعرف الارتباك في أي موقف ارتبكت.. وطلبت من صبية وشابين يمرّان بجانبها، أن يساعداها في حملي الى السيارة التي تبعد مسافة..

يوافق الشاب بشهامة كبيرة.. يحملني بين ذراعيه.. تسرع الصبية خلفنا، وهي تتحدث عبر الهاتف وترشد شخصاً ما إلى مكانها..

لم أفقد وعيي كلياً إلاّ حين وصل..

سالي كانت تناديني طوال الوقت..

-روز حبيبتي خليكي معي.. يللا حكيت يوسف ورايحين عالمستشفى.. هيدا تعب اللي صرلك ايه؟ ما شي مهم..

-روز؟

سمعت صوته يخترق قلبي، فتحت عيني وأنَس حب صوت من أعماقي..

-أنس؟

-ماما.. جمدت روزا.. صعقت سالي..

وقبل أن أغيب عن ذاك الوعي.. نظرت الى تمثال السيدة العذراء.. كانت العينان تنظران إلي.. تبتسمان..

أغمضت عيني وأنا أقول: كتر خيرك.

..يتبع

 

التعليقات