رواية “بين هنا وهناك”- الحلقة 5

كُتِبَ كتابي على أنَس  وفق الشريعة الإسلامية..

جرأة مني.

هنأ أنَس نفسه بي ووعدني أن النفوس ستصفو، والقلوب ستهدأ.. ستعود الأمور أفضل مما كان بيننا وبين عائلتينا..

الآن أعرف أن أمي صُدمت حين دخلَت غرفتي ولم تجد أياً من أغراضي، ولا ثيابي ولا أحذيتي ولا حقيبة السفر.. وأن أبي لامها في أنها قست عليّ كثيراً..

رمت التهمة عليه في تدليلي.. تشاجرا وعلا صراخ اتهاماتهما.. وبكت شقيقتاي خوفاً عليّ وشوقاً إليّ.. لم تفهما لمَ “هربت”.. كان ليلهما لا يطاق.. ظلّ كذلك حتى تعوّد الجميع غيابي.

أعرف الآن أنهما بعد حين، عادا واتفقا على نبذي، فقد خنت ثقتهما، وتأكدا بعد قليل من تحليل، أنني هربت مع “هيدا المسلم المصري”..

وقد حاول أنَس، بالفعل حاول.. أصرّ على لقاء أبي.. ومانعت.. خفت من الموقف.. لكنه أصرّ..

قال إنه سيتقبّل كل كلمة سيقولها أبي.. كل لوم سيرميه.. وإنه يتفهّم:

– لو كنت مكانو.. وحدّ خطف بنتي مني مش حاقبل بسهولة..

الآن أعرف أن التاريخ أعاد نفسه.. الآن هنا.. وأنا عالقة في كوماي.

قصد أنَس مدرسة أبي.. وأصرّ على الاجتماع به..

أرى أبي الآن محتاراً كيف يقابل من “خطف” ابنته.. من حرمه من الصبية الجميلة التي كنتُها.. ألم أكن فرحة بيته؟  ألم يعد نفسه بأن أحقق أحلامه؟

خيّبت أبي؟ كم يبدو حزيناً ومشتاقاً إليّ..

طال انتظار أنَس  خارج غرفة المعلمين، وعلى رأس طاولتها يجلس أبي، كاتماً سرّ هروب ابنته خطيفة مع “مسلم”.. لِمَ خجل بي؟

لم يخبر أبي أحداً عني وعن أنَس.. خجل بي؟ وخجل على هيبته المكسورة أن تتزوج ابنته بإرادتها، غير عابئة بإرادته..

وعاد أنَس ذاك المساء.. أخبرني ما جرى.. فحزنت كثيراً.. طيّب خاطري، ووعدني أن كل شيء سيكون على ما يرام.. وأن القلوب ستبرد، والنفوس ستهدأ..

وعدني أن يعوّض لي تخلّي أهلي عني.

أعرف أن بيت أهلي لم يعد كما كان.. حتى السفر تأجل.

لو كنت أعرف.. هل كنت بدّلت خياري؟

لا..

أتمشى في ماضيّ وتنتقل بي أيامه من حال كنتها الى حال صرت عليها..

لقد عشت مع أنَس حلماً جميلاً، رقيقاً، أنساني كل ما كان قبلاً..

وأجدني في بيتي.. بيتنا أنَس وأنا، عند “كتب الكتاب”.

يا الله كم أبدو مربكة وأنَس يثبت الشال على رأسي بحضور الشيخ محمود، كان فوزي وكيلي الذي أوكلت إليه أمري بعد أن نطقت الشهادتين..

أصبحت مسلمة؟

ما المانع؟ هل أنسى المسيح ومريم؟ لا.. إن كان الإسلام يكمل حبي لديني ولمسيحي وسيدتي العذراء فأنا مسلمة.

أحببت دين أنَس لأن أنَس يشبه دينه.. متسامح، كريم، صالح، طيب، صادق.

وزوّجت أنَس نفسي على سنة الله ورسوله.

وجلست أتأمل المحبس في أصبع يدي اليسرى..

في ليلتنا الأولى، مسح أنَس دموعي بعينيه.

لمَ صعّبوا اختيارنا؟ لم انفصموا وعاكسوا قناعاتهم؟ لم نقّصوا فرحتنا؟

هدأت حين طمأنني أنَس أننا لن نفترق وأن أهلنا سيعترفون بحبنا وأن أيامنا معاً أحلى.. وصدّقت..

حين تحب كثيراً، تصدق كثيراً..

الآن أعرف أن أبي لم يلغني ولم ينسني.. ولا أمي فعلت. كم تكسّر قلبي أني لم أودعهما ولم أقبل رأسيهما، ولم أضمّ شقيقتيّ إلى صدري وأحكي لهما حكايات كل بطلاتها أسماؤهن روزا وأسماء كل أبطالها أنَس.

الآن أعرف.

تابعت عامي الدراسي الثاني، مع أنني لم أحضر كثيراً الى الجامعة.. منعني حملي من الذهاب يومياً، وأيضاً.. خفنا أن يأتي أبي ليسأل عني.. ولم يسأل.

كانت هدى ونجوى تساعداني في الدروس، وفي تحديد مواعيد الامتحانات.

وإن كنتم تسألون إن كنت التقيت بسالي في تلك الفترة، فجوابي هو لا..

لا أنا ولا أنَس الذي حاول أن يبحث عنها كي تكون إلى جانبي، أختاً وصديقة وخبيرة وجاهزة للمساعدة في أي شيء، في أي وقت..

حتى أنه قصد بيتها وعندما لم يجد أحداً، سأل وعلم من أحد معارفها أنها سافرت لتكون إلى جانب شقيقتها التي صارت على وشك ولادة.. يا لسالي الطبية.

احتجت إليها لكني شعرت أكثر أنني بحاجة إلى حضن أمي وحكمة أمي وحنان أمي. لكن أمي غاضبة مني ومحّتني من حياتها كأني لم أكن. هكذا ظننت. فكلما خفّ غضبها مني، زاد شوقها إليّ.

وكثراً ما سألت نفسي لو ولدت بنتاً وأحبّت “آخر” هل أمحوها من داخلي، من ذاكرتي، من قلبي؟ لا.. كيف استطاعت أمي أن تلغيني؟ كيف؟

مع كل هذه القسوة، كنت أتذكّر أوجاع أمي في حملها بي، كلما توجّعت، وأحبها أكثر وأشتاق إليها أكثر وأسامحها أكثر.

وحين اقترب موعد ولادتي، كان صوتي يهرب مني الى أمي.. أناديها مع كل غصة ألم.. في لحظات ضعفي الموجع، اشتقت ولو لظلّ أبي وشغب شقيقتيّ، واشتقت لصوتي يحكي لهما حكايات قبل النوم.. اشتقت أن أكون بنتاً وأختاً وفرداً من عائلة. وَهَنت قواي لكني لم أندم.

كم أحبهم الآن جميعاً وأفتقد لمَّتنا السعيدة.. لم خيّباني؟ لم خرّبا رهاني عليهما؟

حنيني راح إلى يديّ أم جوزيف المحترفتين، والأمان بحضورها، وحديثها الذي لا ينتهي..

ثلاث مرات انتقلنا الى مستشفى البربير.. ثلاث مرات في إنذارات ولادة كاذبة.. كان ألمي يربك أنَس، فيخرج إلى الشارع مسرعاً ويأتي بسيارة تاكسي.

وكانت الرابعة ثابتة.. إنها روزا!

..يتبع

التعليقات