رواية “بين هنا وهناك” الحلقة 7

جمد الدمع في عيني.. بالكاد طلع صوتي المخنوق.. لن أقول لها إن أنَس لم يعد.. ستشمت بي..

-اشتقتلكن..

تجمّدت في مكانها.. لم أفهم نظراتها.. هل كانت عتباً؟ هل كانت غضباً؟ هل كانت حباً كبيراً مخفياً؟

-هاي بنتي روزا؟ قلت وأنا أحاول استدرار عاطفتها..

لم تشفق عليّ.. ولم تنظر حتى الى روزا.. لعلها كانت تريد أن لا تضعف؟

-مين يا تيريز؟ هذا صوت أبي..

أردت أن أقول له.. بابا هذه أنا.. روز.. وهذه حفيدتك روزا.. لكن أخرسني صوت أمي:

-شحادة يا ألبير..

سمعت خطوات أبي يتقدّم.. رآني.. رفّ قلبه من رؤيتي.. بلى بلى.. أعرف هذا.. كاد يبتسم لكن.. عبس..

-شو جاية تعملي؟

-اشتقتلكن.. هاي بنتي روزا.. كررت كالببغاء بصوت مخنوق.

-روحي قبل ما يجوا اخواتك نحن ما عنا بنات بلا مربى..

لملمت خيبتي بل جررتها معي، الى جانب حقيبة ابنتي وضممت روزا إلى صدري ومشيت، مشيت.. كما لم أمشِ في حياتي.. لا مال معي يسعف قدمي من رحلة طويلة.. أمّلت نفسي بأن أعود إلى البيت فيكون أنَس  بانتظاري.. لكن وجدت البيت بارداً.. والجمر يشتعل في قلبي وفي قدمي اللتين آلمتاني كثيراً..

بكت روزا.. لا جوعاً ولا وجعاً.. لا عطشاً ولا حاجة لتبديل ملابس.. لعلها شعرت بأنها مثلي متروكة..

الآن انقطع حبل الوصل مع أمي..

الآن أشعر بالضياع..

راحت مني روزا!!

وطلع صباح انتظار آخر.. تضج فيه أصوات القذائق التي صارت تقترب.. خفت. خفت على ابنتي وخفت من أفكاري..

هل تركنا أنَس؟ ثم هذا الجنون المدفعي.. ما الذي يجري؟ ليتني اهتممت بالسياسة وبأخبار الأمن، لكنت حلّلت وعرفت أن حرباً إلغاء قد شنّت وحرب تحرير قد رفعت.

تكوّمت مع ابنتي في غرفة النوم.. فقد شعرت أنها الأكثر أمناً.. أين أنت يا أنَس؟

هدأ القصف قليلاً.. هي استراحة متحاربين؟

وسمعت دقة على الباب..

طرت من مكاني فرحاً.. عاد أنَس  وكذّب كل أفكاري السوداء، بخّر كل كوابيسي.

فتحت الباب لأجد سيدة أنيقة رغم السواد الذي ترتديه وجميلة ابتسمت لها..

-انتي تبقي.. روز؟ سألتني باستعجال..-

-نعم.. مين حضرتك؟

-انا ابقى ليلى هانم والدة أنَس

-تفضلي تفضلي تانت ليلى..

-تانت؟! استغربت ثم راحت تقلّب محتوى الغرفة بعينين لا ودّ فيهما..

لا أعرف أين غابت سرعة بديهتي، كيف ذابت أمام حضروها القوي..

-أهلا وسهلا..

رحّبت بها وأنا أنظر الى الخارج.. فأنَس بالتأكيد خلفها.. جاء بها لتزورنا.. لكن لم يكن أنَس  في الخارج.. بل سيارة تاكسي مطار دمشق الدولي تنتظر..

لم يكن عندي وقت لا للتفكير ولا للتحليل.. كنت أريد أن ينتهي كل نتظار مع طلة أنَس.

-ما عنديش وقت.. عندي سفرية طويلة.. الجنان اللي حاصل عندكم ما يتحملش.. ازاي ابني قدر يعيش كل المدة دي هنا.. مش عارفة.. خدي دول..

وأخرجت رزمة أوراق نقدية.. استفزني ترفّعها ولم أفهم الموقف.. لم تعطيني المال؟

-ايه مالك؟ قالت لي وهي تنظر اليّ بعينين ملؤهما السخرية؟ حا يزعل أنَس لو ما خدتيش الفلوس..

– وينو أنَس؟

-ما عنديش وقت اشرح.. لسه قدامي سفرية طويلة، من هنا للشام ومن هناك لمصر.. جنانكم قفل المطار..

-أنَس وين؟ ليه ما إجا معك؟

-انتي ايه؟ ما بتفهميش؟ يووه.. ده مبلغ اعتبريه تعويض ليكي وللقمورة اللي بين ايديكي.. ابني عندو ضمير.. يعني.. تقدري تقولي نزوة وانتهت..

-نزوة؟

مالت الدنيا بي. أنا نزوة؟ أنَس؟ معقول؟

استجمعت قوتي وصرخت غير مصدّقة..

-“انتي كذابة”..

ضحكت ليلى هانم..

-مش فاضيالك..

رمت ليلى هانم المال على المقعد.. وخرجت. أي ماء بارد اندلق علي؟ أنا نزوة؟ ألا يكفيني طرد أهلي لي؟ أي يوم هو هذا؟ أنا نزوة؟

ضممت روزا إلى قلبي أحتمي بها من إنكار ليلى هانم لها، وأحميها من غدر أوحت به.

وأسمع صوتي مجروحاً:

– أوعا تصدّقي روزا.. أنَس  بيحبنا.. انتي حبيبة بابا أنَس.. ما تصدقيها هاي كذابة كذابة..

نزوة؟

ودوّى صوت انفجار قريب.. قريب جداً.. إنه في الباحة خلف بيتنا.. ما هي إلا لحظات قليلة حتى عبق الدخان الأبيض والأسود.. وقعت أرضاً.. وفلتت روزا من يدي.. ثم سمعت صوتي يناديها.. ثم.. لم أعد هنا..

..يتبع

التعليقات