مختارات من كتاب “ما بين النفس والجسد”.. وفيك انطوى العالم الأكبر

الصورة عن الانترنت طبعاً.. من الفضاء الواسع الرائع الشاسع الذي نحسب فيه أننا جرمٌ صغيرٌ 

في مقدّمة كتابه ما بين النفس والجسد، كتب د. جود أبو صّوان التالي:

الإنسان لغز الإنسان، فمنذ أقدم العصور ومعرفة الإنسان لذاته هي اللغز الذي حاول الفلاسفة والباحثون فك رموزه بالتفتيش عن الإنسان. وقصة كريستوف كولومبوس ترمز إلى التفتيش عن حل الأمور البسيطة بالدوران حولها تعقيداً لمتاهات الوصول إليها. فحقيقة إيقاف البيضة على رأسها كان في البيضة ذاتها ولم يكن بالمطلق خارجاً عنها.

لقد عرف فلاسفة اليونان قيمة التفتيش عن المعرفة في الإنسان ذاته، فكان شعار معبد دلفي: “إعرف نفسك، تعرف الكون والآلهة”. ويستدرك فيثاغورس حكمة معرفة الإنسان لذاته بقلب معادلة الأبعاد وصولاً إلى الأنسان إذ يقول فابر أوليفه Fabre d’olivet عنه في كتابه “أشعار فيثاغورس الذهبية”: “إن التأمل العميق لحركة الأفلاك وما فيها من كواكب وشموس قاد الإنسان إلى تأمل الأرض وصولاً إلى النفس الإنسانية”. ويستطرد فيقول: “كما إن الكواكب تدور حول الشمس ولكل منها نظامه الخاص المتكامل مع النظام الكوني، كذلك فكل ما يُحيط بالإنسان يدور حوله، وتتمثّل فيه جميع أنظمة الكون”.

حاولت البحوث العلميّة أن تفسر الإنسان فلم تعطِ إلا مبادئ مادية عن الجسد، وحاولت الأديان أن تفسر الإنسان من خلال ما تدّعي معرفته عن الروح. وفي التجربتين لم نجد الإنسان، لأن الولوج إلى عمق ذات الإنسان بقي خيالاً أو سراباً لا زالت الإنسانية تخاف التوغّل في مجاهله، فبقي الإنسان واقعاً خارجياً يقارب الحقيقة ولا يصل إليها.

فالامراض النفسيّة الناتجة عن القلق والحزن الشديد والخوف والهمّ والسوداويَّة، هي أمراض تصيب العمق النفسي للذات أوّلاً، ثم تأخذ لها في الجسد متنفّساً تنطلق منه وتعلن عن ذاتها..

في مقتطفات المختارات الواردة في هذا الجزء:

* حقيقة إيقاف البيضة على رأسها موجودة في البيضة ذاتها لا خارجاً عنها

* عرف فلاسفة اليونان قيمة التفتيش عن المعرفة في الإنسان ذاته، فكان شعار معبد دلفي: “إعرف نفسك، تعرف الكون والآلهة”.

* لجسم الانسان المادي مجسّم مصغّر في خلايا الدماغ تنحصر فيه نظم حياة الكون كله

* قوّة الشفاء الذاتي موجودة في كل منّا وفعاليتها مرتبطة بدرجة وعي كل انسان لها

* في جميع الحالات الشفائيَّة يتبيّن ان ارادة الشفاء تأتي من داخل الانسان وليس من خارجه

* فيتاغورس قال: إن الكواكب تدور حول الشمس ولكل منها نظامه الخاص المتكامل مع النظام الكوني، كذلك فكل ما يُحيط بالإنسان يدور حوله، وتتمثّل فيه جميع أنظمة الكون”.

* إن التسكين أو التخدير ليسا إلا إلغاء للذات وتعمية لأحاسيسها عن الشعور بالألم. هذا الالغاء يؤدي إلى نتائج اخطر من المرض ذاته بمئات المرات..

* الانسان جزء من كل حلقة تؤثّر في الكون وتتأثَّر به

إذن.. وبالعودة الى الكتاب ومضمونه، فهو يتضمّن: دراسات وأبحاث تحليليّة موضوعيّة تطبيقيّة، حول علاقة علم النفس بالمرض، والطاقات الشفائيّة الذاتيّة، وعلاقة الغذاء بالجماليّة الجسديّة.

على حلقات تنشر “حرف عربي+” مقتطفات من كتاب “ما بين النفس والجسد”، بما فيها من فائدة لقارىء يريد أن يتعرف ليعرف ويفهم.. لنقرأ معاً..

مفتاح أقداس المريض..

في جميع الحالات الشفائيَّة يتبيّن ان ارادة الشفاء تأتي من داخل الانسان وليس من خارجه وتكون لاحقة لتغيّر في الجو الحياتي العام للمريض. وهنا يكمن مفتاح الشفاء الاساسي. وعليه، فإن كل محاولة، بدون هذا المفتاح، للدخول إلى أقداس المريض، ستكون عنوة وليست اختياريَّة، حتى، وان كانت هادئة وبدون ضجَّة خارجيَّة، كما يعتقده الطبيب. فالتسكين والتخدير ليسا إلا إلغاء للذات وتعمية لأحاسيسها عن الشعور بالألم. هذا الالغاء يؤدي إلى نتائج اخطر من المرض ذاته بمئات المرات، لأنه يؤدي إلى استفحال العنصر المرضي من ناحية، وإلى الغاء القوى الدفاعيَّة المضادة له، من ناحية أخرى. فالانسان جزء من كل حلقة تؤثّر في الكون وتتأثَّر به. وما الالغاء إلاَّ اماتة قسريّة للانسان والغاء للقوى الكامنة فيه المتصلة بقوى الحياة الكونيَّة من خلال احاسيسه ومشاعره وخياله ورؤاه وتصوّراته التي لا تُرى ولا يشعر بها الطبيب المعالج. فكما ان الضوء مؤلَّف من جزئيات ضوئيَّة Photons لا ترى ولا تلمس، كذلك، فإن جميع هذه اللامرئيات تحيط بنا وتؤثر على حياتنا وعلى الكون كله، دون ان نهتم لتفسيرها وتفسير تأثيرها علينا، وأيضاً، كذلك هو الأمر مع العمق النفسي للمريض وتأثره بما يحيط به.

ان اهتمام الانسان بمظهره الخارجي هو الشغل الشاغل للبشرية. فالفرد يهتم لما يأكله ويشربه ويلبسه لأن هذه الأشياء مرئية، محسوسة، ملموسة، يُرضي بها جسده المادي المرئي والمحسوس. أما الجزء الانساني المهمّ، الجزء الداخلي، الخفيّ الذي يحرك الخارجي ويسيرّه وينقله إلى البعد السابع فيضعفه ويدمّره، أو يرممه ويجدّده و يشفيه، فهو الجزء المهمل، المنسي لأنه الجزء الفاعل، الصامت، الهادئ القوي الذي لا يطلب أجراً ولا يرجو نوالاً. إن جهل الانسان لقوانين حركة الحياة بداخله دفعه نحو الظواهر دون الكوامن، ونحو المحسوس دون المعقول. ان الخارج هو صورة لكوامن الداخل، وما يظهر على الجسد ما هو الا من تأثيرات الداخل. فتموّج صفحة الماء الهادئ لا يتم إلا بتحريك ذرات أعماق الماء من الداخل، وبقدر الحركة الداخليَّة لهذه الذرّات تكون التموّجات السطحيَّة. ان أي مرض يصيب ظاهر الجسد انما هو منعكس لما في داخل هذا الجسد من خلل، لأن صورة الجسد الخارجي هي منعكس لصورته في طيَّات الذاكرة الدماغيَّة Microtype. فلجسم الانسان المادي مجسّم مصغّر في خلايا الدماغ. وهذا المجسّم المصغّر تنحصر فيه نظم حياة الكون كله. فكما في السماء كذلك على الأرض، وما هو في الظاهر هو في الداخل. والسماء التي نراها منبسطة فوق رؤوسنا تعجّ بملايين الكواكب المنظّمة، بمجموعها، المنتظمة بداخلها، تشبه جسد الانسان تماماً. فهو يتألَّف من الملايين المتكوكبة من الخلايا، لكل واحدة شخصيتها المستقلَّة، المحتفظة بعقلها الخاص والمندمج في العقل الكلّي المستقل بذاته وبين المجموع المندمج في الأجزاء. هذه النغمة، ان توافقت مع اللحن العام، كانت الصحة والسعادة والشعور بالراحة والسلام. وان تنافرت كان المرض والحزن والاضطراب والقلق. ومن أعماق النفس، من مكان لا يلتمسه العقل، يصدر الأمر بالنوتة، فتتحرَّك كل خليَّة لتؤدي دورها في اللحن العام انسجاماً مع بقيَّة أعضاء الأوركسترا.

وفي قول للإمام علي ابن ابي طالب عليه السلام:

داؤك منك وما تشـعـر                           ودواؤك فيك و ما تُبصرُ

وأنت الكتاب المبين الذي                        بأحرفـه يُقرأ الُمضمـرُ

وتحسب أنك جرم صـغير                         وفيك انطوى العالم الأكبرُ

ان للجسم روحاً تختص به، من يعرف لغتها، يحسن مخاطبتها فيستطيع أن يعرف أسرارها ويكشف ما بها ويخلق قواه الشفائيّة، ويساعد على ابقاء جسده كما يشتهيه ان أحسن سماع ايقاع نغمتها وتوافقها مع اللحن العام. وتنشيط العمليَّة الشفائيّة بايقاظ قواها الكامنة يتمّ من خلال روح الجسد لا من خارجه. وليس لروح الجسد هذه مكان حصري تسكن فيه، أو تتحدد به، انما هي في الجسد كله تؤثّر فيه، كما يؤثر فيها، تسبب أمراضه وتشفيه، كما انه بدوره يسبب قلقها وتعاستها. فالاثنان متكاملان في كل لا ينفصل. فالامراض النفسيّة الناتجة عن القلق والحزن الشديد والخوف والهمّ والسوداويَّة، هي أمراض تصيب العمق النفسي للذات أوّلاً، ثم تأخذ لها في الجسد متنفّساً تنطلق منه وتعلن عن ذاتها. فالسرطان والسكّري والروماتيزم وأمراض تصلب الشرايين والأمراض الجلديَّة على اختلاف أنواعها من دمامل وبثور وثآليل واحمرار وتآكل وطفح واكزيما وحزاز وثعلبة، وصدفيّة وبهاق بنوعَيه الأسود والأبيض، وبعض أمراض الجهاز التنفسي، والجهاز البولي، انما هي متنفسات Echappatoires لحالات نفسيّة تعمّقت في الذات. وعلاج هذه الأمراض من الخارج، انما هو تعمية وغض نظر عن السبب الداخلي. وشفاء هذه الأمراض يتمّ فجأة لدى تغيّر الحالة النفسيَّة للمريض، بزوال السبب من دائرة اللاواعي Subconscient ومحوه منها.

قوة الشفاء الذاتي

ان قوّة الشفاء الذاتي موجودة في كل انسان وفعاليتها مرتبطة بدرجة وعي كل انسان لها. فالبعض قد أماتها بشكل شبه كامل بسبب سلوكه اليومي بانتهاكه لقوانين الصحة العامة للذات الانسانيّة وللجسد على حد سواء، والبعض يفضل أسرها فلا يشعر بها، وهناك بعض قد ألغاها باعتماده على وسائل خارجيّة بديلة عطّلت دورها وألغته، والقليل من الناس من يعرفها ويحسن ايقاظها متى خملت، لتبقى كاملة الوعي المسؤول والفاعل. والايمان، وهو احدى طرق ايقاظها، ليس الا كحبوب الدواء الوهمي Placebo التي يأخذها المريض فتؤثر فيه، ليس لفعاليتها الذاتيّة، وهي معدومته، وانما لايقاظها قوى الشفاء الذاتي، وتحريكها بشكل مفاجئ تكون نتيجته شفاء مفاجئاً وبلا مقدّمات كثيرة.

صراع الجسم مع المرض

وقد دلّت الاحصاءات ان الكثير من الأمراض تُشفى بدون معالجة إما لتغير المكان أو لتغير في النمط الاجتماعي وفي نمط العيش والسلوك، أو لسبب يبدو ظاهره بسيطاً، لكنَّه أحدث تغيّراً في اللوحة النفسيَّة الحساسة للمريض فأحدث بدوره شفاء مفاجئاً أو عجائبيّا، كما يسمى، ومن بين هذه الأمراض سرطان الجلد القاتل Mélanome وغيره من أنواع مرضيَّة مستعصية.

من المعروف ان الجسم هو في صراع مستمر مع المرض، وباستمرار قواه الدفاعيَّة تنتهي هذه المعارك دائماً بانتصار الجسم. وبما ان القوى الدفاعيَّة للجسم تتأثّر بالعامل النفسي الداخلي فإن المحافظة على التوازن النفسي هي من أهم التحصينات التي تساعد في مقدرة السيطرة على الوضع والتحكّم بالمسار الخارجي للمرض؛ وهذا لا يعني أن جميع الأمراض هي نتيجة للعامل النفسي. فمن المعروف أن الانسان قادر على خلق سرطاناته بواسطة بعض المواد المشعّة، وباتباعه لنمط غذائي تالف، كثير الدهون، أو بواسطة بعض الفيروسات المتحوّلة والعيش أو العمل في أمكنة ضعيفة التهوية، أو باضعاف الجسد بالسهر والتدخين والادمان على المخدرات. هذه المسببات السرطانيَّة إن أضيفت إلى جو الضغط النفسي الدائم، فإنها تضعف قدرة الجسد على المقاومة وتعطّل قدرته الدفاعيَّة التلقائيَّة مما يهيّء الجو الملائم للسرطان. فالمواد السرطانيَّة تخلق فكرة السرطان. وعندما تتحد الحقيقة بالفكر تصبح في الحالات السلبيَّة قاتلة، مميتة. وفي حالات أخرى، فان التفكير الدائم بالاصابة يخلق جواً من الضغط النفسي يؤدي في النهاية إلى الاصابة بالسرطان الحقيقي. فالسرطان هو كمارد نائم إلى جانب كل خليَّة، توقظه فكرة وجوده. فالفكرة تخلق الحقيقة. وفي جميع الحالات فإن اتحاد الفكرة السلبيَّة بالحقيقة يعطل دور المقاومة ويحسم الصراع لصالح المرض. ومن هنا يظهر مفتاح الشفاء الذي يكون بفصل الحقيقة عن الفكرة. فإلغاء المرض يبدأ بالغاء فكرته. والشفاء، بالمقابل، يبدأ بفكرة مقدرة الذات على الشفاء التي تُحول نواتج الفكرة السلبيَّة الأولى إلى نواتج ايجابيّة تفعل فعلها الإيقاظي في الجملة العصبيّة المقاومة.

الدفاع الذاتي التلقائي

ان مقدرة الدفاع الذاتي التلقائي تكون في أوجها عندما تكون أجهزة الجسم العصبيَّة في شباب نشاطها، اذ ان هذه القوة تضعف مع تقدّم العمر، لذلك يصبح المسنّون معرّضين أكثر من غيرهم للوقوع فريسة المرض خاصّة بعد فترة تقاعدهم، اذ يشعرون بأعماقهم، بعدها، بالالغاء الاجتماعي الذي يتسبّب بالتالي بالغاء وظائفهم الدفاعيّة الذاتيّة، فالالغاء هو بداية النهاية التي قد تطول أو تقصر بحسب ظروف الشخص المسنّ. و قد تبين ان المسنّين الذين يستمرُّون بتحمل المسؤوليات التي كانت لهم قبل تقاعدهم، يُبدون نشاطاً وحيوية غير اعتياديين، ومقاومة نموذجيّة للمرض على الرغم من تقدّمهم في العمر إلى مراحل متأخّرة.

عامل نفسي/ عامل بيولوجي

ولا يرتبط ضعف المقاومة بالعامل النفسي وحده، بل وبالعامل البيولوجي أيضاً. فالدماغ، مع تقدّم العمر يصغر حجمه، ويخف وزنه، ويفقد سنوياً ملايين الخلايا العصبيّة Neurones؛ حوالي 18 مليون خلية تفقد في السنة ولا تتجدد ابتداءً من سن الثلاثين. فالجملة العصبيّة تتزايد من السنة الثانية وتبلغ أوج غناها في سن الثلاثين لتبدأ بعدها مرحلة الانحدار الخليوي. فالانسان يخسر خلال حياته وبمعدَّل وسطي، حوالي مليار خليَّة عصبيَّة، وهذا لا يعني ان هول هذه الخسارة يؤدي إلى تلف الجسم الكامل ذلك لأن الجسم يستعيض عن هذه الخلايا المفقودة بتشعّبات تنشأ عنها Dendrites؛ التي تربط الخلايا فيما بينها، مشكّلة بدائل، تحل إلى حد ما، مكان الخلايا المفقودة. كما إن تراكم البروتيين الخيطي في الشبكة الدمويّة للدماغ على مرّ السنين يؤدي إلى تسريع الشيخوخة الدماغيّة لأن تراكم هذا البروتيين يؤدي إلى كسل الخلايا الدماغيّة وبالتالي ابطال مفعولها. كما لوحظ أن زيادة ضغط الدم في شرايين الرأس يساعد على الكسل الدماغي بسبب تصلب أغشية الدماغ وعدم قدرتها على امتصاص أوكسيجين الهواء، مما دفع بالباحثين إلى معالجة الشيخوخة الدماغيّة بانعاش الأغشية الدماغيّة بالأوكسيجين إضافة إلى فيتامينE ، الذي ينشّط تلك الخلايا. وبسبب فقدان الخلايا المستمر، تظهر التجاعيد وتبدأ ملامح الشيخوخة بالتوالي وبالتعمّق مترافقة أحياناً بفقدان للذاكرة وضعف بقدرة الحكم العقليFaculté de jugement  والذكاء، وتضعف الحواس، ويصبح العظم هشّاً، سريع التكسّر وفي نفس الوقت تضعف مقاومة الجسم للأمراض. وعلى الرغم من أن للعمر أثره الكبير في ابراز معالم الشيخوخة إلاَّ أنّنا نرى كهولاً تجاوزوا السبعين من عمرهم وهم في نشاط جسدي وعقلي مميّز ولياقة بدنيّة رياضيّة تكاد لا تكون عند الشباب.

ومن ناحية أخرى نلاحظ وجود شباب ظهرت عليهم معالم الشيخوخة المبكرة، كل هذا يُثبت ارتباط التهدّم الخليوي الجسدي بعوامل أخرى غير العمر مثل نوعيّة الحياة التي يعيشها الإنسان بالاضافة إلى نظامه الغذائي ونشاطه الجسدي والعقلي إضافة إلى وفرة الأوكسيجين في المناخ الذي يعيش فيه والأهم من كل هذا حب الإنسان للحياة والراحة النفسية التي يعيشها. لقد أثبتت الدراسات النفسيّة المتطوّرة ان التدرُّج الانحداري للخلايا العصبيَّة الدماغيَّة يرتبط ارتباطاً حميماً بنوعيَّة الحياة التي يعيشها المسنون وبطريقة تفكيرهم ومساهمتهم في حل مشاكلهم ومشاكل مجتمعهم. ففي احصائيات أجريت حديثاً على مجموعة من المسنّين الأصحَّاء غير المصابين تقريباً بعقد نفسيَّة “شعور بالوحدة، انعدام الشعور بالمحيط، انهيار عصبي، احباط، شعور بالالغاء وغيرها” أثبتت ان هؤلاء لا يشكون أبداً من انهيار الذاكرة الذي يرافق العمر بل بالعكس فإنهم يتمتّعون بقوَّة تذكّر للماضي البعيد، في مقابل نسيانهم لبعض توافه أمور تختصّ بحاضرهم القريب مثل تذكّر أرقام الهاتف، أو لماذا هم في هذه الغرفة، وعمَّ يفتّشون فيها؟ هذا التناسي هو رد فعل طبيعي، لأنهم لا يرغبون بتذكّر ما يربطهم بالواقع الذي لا يحبونه وهذا ما دفع شيشرون للقول: “لم أجد كهلاً صحيحاً نّسِيَ مكان احتفاظه بنقوده”.

ان تداعي العملية التذكّريّة عند الكهل يرتبط ارتباطاً حميماً بنوعيَّة تفكيره المستمد من واقعه الحياتي. فبقدر ما هو مرتاح نفسياً، بقدر ما تكون ذاكرته وضاءة، واضحة، لأن عمليات النسيان هي منعكس لشعوره بالإلغاء أو لإلغاء همومه. فحين يحس الكهل انه مريض فإنه يحاول تصوّر المعاملة السيئة التي تنتظره حتى من أحب  الناس إليه. فيتصوّر ذاته مقرفاً، متعباً، وسبباً لتأفف العائلة منه، وعندها تنشط عملية الدفاع عن الذات، فيعمد الى الغاء ذاكرته، وهذا يعني الغاءً لمسقبله وما سيعاني فيه وبالتالي الغاءً لذاته كلها. أما الكهول الذين يسيطرون على أوضاعهم ويستمروُّن بتحمل المسؤولية وكأنّهم في زمن شبابهم، فإن قواهم الذاتيَّة تنشط ومعها تستمر الذاكرة وقوى الدفاع المرضي فتتأخر الشيخوخة. فسرّ الشباب الدائم عند الكهول يكمن في استمرارهم بتحمّل المسؤوليَّة وشعورهم انهم أهل لها.

للخلية شكلها الخاص.. لكن..

على الرغم من ان للخلية شكلها الخاص، لكن جميع الخلايا تكون على نفس الاطار العام التركيبي اذ ان لكل منها جزءاً مركزياً منتفخاً تنطلق منه تشعّبات عصبيّة دقيقةAxone  تنتهي بشكل لولبي يلعب دور المجسّ الحساس في العمليَّة العصبيّة، وهذا ما يسمح للخلايا العصبيَّة بارسال الاشارات إلى الدماغ. فالتشعّبات الثانوية البديلة الناشئة عن ترابط الخلايا العصبيَّة فيما بينها (Dendrites) تشكّل في حال فقدان الأعصاب التلقائي (Auto-Destruction) وحدات عصبيَّة تلعب دورها في استمرار الوظيفة العقليَّة إلى زمن متأخر من العمر، ويفسّر ذلك استمرار الحكمة والرؤية العقليَّة عند بعض الشيوخ الأصحَّاء على الرغم من تقدّمهم في العمر. من ناحية أخرى، ان نوعيَّة التفكير ودرجة النشاط العقلي يساعدان في خلق مثل هذه التشعّبات البديلة. فكما ان الأفكار تنشأ من الدماغ، فان الأعصاب بدورها تنشأ من الأفكار. فتوالي العملية التذكّرية عند الشيوخ واستمرارهم في الجهد الذهني يخلق عندهم تشعّبات عصبيَّة جديدة تساعدهم في الحفظ على نشاطهم العقلي. ففي الدماغ السليم لا ترتبط الشيخوخة بعامل الزمن وانما بنمط التفكير وبنوعية المسؤولية الملقاة على كاهل المسنّ. ومقولة ان الخليّة العصبيَّة هي التي تولّد الأفكار هي نصف الحقيقة، والنصف الآخر هو ان الأفكار هي التي تسبب نشوء الشعيبات العصبيَّة الدماغيَّة (Les Dentrites). فكما ان التمرين الجسدي ينمّي العضلات و يحافظ على شكل سليمٍ للجسم، فان البحث العقلي المستمر يحافظ على شكل سليمٍ للجسم. فالبحث العقلي المستمر يحافظ على نشاط الدماغ وبالتالي يساعده على القيام بوظائفه بشكل عادي، ومن بين هذه الوظائف وظيفة التجدد الخليوي البديل ووظيفة الدفاع التلقائي ضد المرض. فالتفكير يحدث في قشرة الدماغ تموّجات وذبذبات، وهذه بدورها تشكّل إلكترونات تتشاكل وتتخالط لتكوّن مادة جديدة وجواهر لمادة تتحرَّك بفضل الروح المؤثّرة فيها وبغيرها من أشكال المادَّة، وهذا ما يحفظ الوظيفة العقليَّة بشكل طبيعي لعمر متقدّم. هذه المقولة، تصحّ أيضاً في بيولوجيَّة الجسم، فعلى الرغم من التلف التركيبي لخلايا أنسجة الشرايين والقلب وعدم تساوي المعادلة بخلق أنسجة جديدة بديلة، فإن أمراض القلب وأمراض تصلب الشرايين تخفّ نسبتها عند المسنّين الذين يمارسون نشاطهم العقلي الاعتيادي ويقومون بتمارين المشي اليوميَّة مع الأخذ بعين الاعتبار نظامهم الغذائي الجيد المشبع بالفيتامينات التي تساعد تجددهم الخليوي، كذلك الأمر بالنسبة لكمّية السوائل التي تدخل أجسامهم والعملية التنفسيَّة التي تحفظ قطبيَّة التوازن الخليوي والتي تلعب الدور الأساسي في العملية الشفائيَّة.

..كلّه في الدماغ!!

في سنة 1971، ذكر الدكتور أ-كاري سيمونتون (cari simenton) من جامعة تكساس، حالة أحد مرضاه الشيوخ وعمره 61 سنة، وكان مصاباً بسرطان متقدَّم في بلعومه. ولم تكن حالة المريض تسمح بمعالجته بواسطة الأشعّة، فحاول الطبيب، وكان شغوفاً بعلم النفس التطبيقي، أن يجري مع مريضه تطبيقاً للمعالجة بواسطة التصوُّر العقلي (visualisation) فدرّبه على طريقة تصوّره مكان مرضه وارتباط المنطقة المريضة بالجملة العصبيَّة، وكيف ان الدماغ يحاول إرسال ومضات شفائية إلى تلك المنطقة وطلب من مريضه ان يتخيل هذه العمليَّة أثناء إجرائه للعمليَّة التنفّسيّة العميقة وان يتصوَّر ان دماغه ينشط بارسال هذه الومضات العصبيَّة المشعَّة التي تساعد الكريّات البيضاء وتنشّطها في تطويق الخلايا السرطانيَّة وإبادتها. بعد ثلاثة أشهر من تنفيذ هذه التعليمات بكل دقَّة وبإيمان عميق، شُفي المريض تماماً من سرطانه أمام دهشة وتعجّب الدكتور المعالج الذي لم يجد التفسير العلمي لظاهرة التدخّل النفسي في المعالجة. ثم ان المريض نفسه الذي كان يشكو من التهاب أعصاب ركبته (arthrite) استشار طبيبه في أمر معالجة مرضه هذا بعمليَّة الاستبصار الشفائي ذاتها(visualisation). وبما ان الطبيب الذي أدهشته عمليَّة الشفاء من السرطان، بواسطة الاستبصار، شجعه على ذلك، معتبراً ان القوَّة الداخليَّة التي ساعدت في الشفاء من السرطان، لن تكون أقل فعاليَّة في الشفاء من الالتهاب العصبي. وشُفي المريض بعد أسبوعين من تطبيقه هذه الطريقة التي عرفت بطريقة سيمونتون للشفاء التي كان يطبقها كهنة المعابد المصريَّة في الزمن القديم، التي يتقنها معلّمو وردة الصليب (rose-croix) ويطبّقونها في جامعتهم في كاليفيورنيا. وقد امتاز أتباع هذه الجمعيَّة بقدراتهم الفكريَّة وبحوثهم الفلسفيَّة وتفتيشهم عن الحقيقة داخل الانسان باعتباره جوهراً كلياً، صغيراً تنعكس فيه كافَّة نظم الكون وتنحصر فيه قوانين المعرفة، ولعل الدكتور سيمونتون هو أحد اتباع هذه المدرسة الفكريَّة المتخفّين.

الاستبصار الشفائي..

ان ممارسة عمليَّة الاستبصار الشفائي تتطلب مقدرة عظيمة في السيطرة على الأحاسيس والتغلّب على حالات الضعف النفسي والاحباط والشك التي تترافق، وبأشكال مختلفة، مع حالات المرض، كما تتطلب إلى جانب ذلك، تمارين التنفّس وضبط العواطف والسيطرة على الميول والتحكّم في مسار الفكر وتحويله إلى طاقة فاعلة كما هي الحال في تحويل الكهرباء إلى قوَّة حراريَّة ثم ضوئيَّة وغير ذلك من أشكال القوى، أو كما نستطيع تحويل نعومة الماء إلى قوّة بخاريَّة دافعة أو ضاغطة أو محرّكة، أو إلى قوّة كهربائيَّة وغير ذلك من مختلف القوى التي تنتج عن التحول الأول للقوَّة. بالاضافة إلى كل ما ذُكر، فان الاستبصار الشفائي يتطلب معرفة تامَّة في علم التشريح، لتحديد مسار القوة العصبيَّة ودورها في مختلف الأعضاء والروابط بين هذه الأعضاء ومراكز تلك القوَّة.

ان الشكّ في عمليَّة الاستبصار يلعب دور القوَّة المحوّلة القاتلة، كما يحدث أحياناً، أثناء تحويل مختلف القوى إلى قوى أخرى مغايرة. فتحويل القوة المائية إلى قوة كهربائية يسبب موتاً وخسارة ان أُسيء فهم قوانين التحويل وأُسيء استعمال القوَّة الجديدة. كذلك الحال في استعمال القوى الذاتيَّة وتحويلها إلى قوى شفائية. فالشكّ، وهو أهم العوامل النفسيَّة، يحوّل هذه القوى ويغيّر في قطبيّتها فتصبح قوى سلبيَّة تسبب انعكاساً وتدهوراً في صحّة المريض نظراً لتحوُّل الانطباعات العقليَّة العصبيَّة الكهرو- مغناطسيَّة (neuropeptides) إلى قوى تدميرية معاكسة.

بما ان طريقة تأثير المفاهيم العقليَّة على الجسم سلباً أو ايجاباً ليس لها قاعدة ثابتة لاختلاف طريقة التفكير بين انسان وآخر، اذ لا يوجد اثنان متشابهان تماماً بطريقة تفكيرهما، لذلك يستحيل ايجاد قواسم مشتركة ثابتة وقوانين محدّدة تسيّر هذه العمليَّة وتتحكَّم فيها. فشعور الانسان باللذة أو بالألم يختلف من انسان لآخر، ولا يتّفق اثنان على تحديد تعريف موحّد يجمعهما في تفسير الحالات المذكورة، وهي أبسط الحالات، وذلك لأن الاستجابة العصبيَّة والعقليَّة، لكل منهما، تختلف من واحد لآخر، فكيف يكون ذلك ممكناً في حالات الشفاء المعقّدة؟ وبما ان الطب هو علم يعتمد المفاهيم التجريبيَّة الموضوعيَّة، وأمام استحالة وضع قواعد ثابتة لمقدرة الانسان على شفاء ذاته، فإن المدارس الطبيّة قد رفضت، عموماً، هذا المبدأ، كما رفضت مبدأ نقل الطاقة الشفائيَّة ضاربة بعرض الحائط ما قاله أبقراط: “ان المريض المشرف على الموت، يشفى أحياناً كثيرة لمجرّد ايمانه بقدرة طبيعته على شفائه”.

ان شخصيَّة الطبيب، إلى جانب عامل ارادة الشفاء عند المريض، تلعب الدور الرئيسي في حالات الشفاء، اذ انها تومض في الضمير اللاواعي للمريض قوّة شفائية مساعدة، هذا بالاضافة إلى ان توهّج جسد الطبيب بالقوى السليمة ينتقل إلى المريض، خاصّة اذا تواكب ذلك مع لمس الطبيب للمريض بغية فحصه، فتنتقل القوّة السليمة  مباشرة، من جسم الطبيب إلى المريض فتساعده على الشفاء. حتى ان مرضى كثيرين يشفون لمجرّد التحدّث مع الطبيب أو لدى مشاهدته يدخل إليهم وذلك لأن القوَّة الشفائيّة الحيّة (La force vitale) تنتقل بالتذبذب من الصحيح إلى المريض فتضاف إلى المخزون الباقي من مثيلاتها عنده فيشفى. وقول بعض المرضى لطبيبهم: “ما ان لمستني يا دكتور حتى شفيت” هو خير اثبات لامكانيّة نقل الطاقة الحيَّة بواسطة التوهّج والتذبذب من جسم إلى جسم آخر.

في الحلقة القادمة: يسوع الناصري المشرق الشافي.. نقّال لقوى الحياة

التعليقات