حب مزنّر بالعذاب
في المساء، آوت أمي شقيقتي الى فراشهما، وانشغلت بتوضيب طاولة الطعام وتنظيف الأطباق.. كان هذا الشغل يخفف من توتري.. لاحظت أن أمي لم تسألني عن كتب العام الجديد.. من جهتي، لم أشأ أن أفتعل كذبة، قد أبدأ بها ولا أعرف كيف أنهيها..
– رح أعمل زهورات بتشربي ايه؟ سألتني ووافقت عني، فلم أمانع.
استجمعت كل شجاعتي وقلت لها بكل ثقة وأنا أفرفك يدي بفوطة المطبخ:
– ماما.. فيه موضوع بدي احكيكن فيه انتي وبابا..
– موضوع؟ موضوع شو؟ توثّبت أمي.. كأن قلبها أنبأها بعقوقي.
– بتعرفي أنَس اللي التقينا فيه عند بيت سالي السنة الماضية؟
– هيدا المصري؟ شو بو؟
– رح يجي بعد اذنكن يطلب ايدي.
تغيّر لون أمي واحتارت من أين يخرج صوتها الغاضب.. صارت امرأة أخرى.. صرخت:
– ألبير.. يا ألبير تفضل شوف بنتك.. (وتمتمت) ومسلم كمان؟
– هيدا اللي كنت خايفة منو.. قالت وهي تفرك يديها وفي لهجتها خوف مرعب.
جاء أبي على عجل.. وكنت أنا أحبس أنفاسي لموقف صعب سيغيّر مجرى حياتي.
– تفضلي قولي لبيّك شو مقررة حضرتك.. يا ضيعان الترباية.. يا ضيعان الترباية!
أنا؟ بلا مربى؟ ما الخطأ الذي اقترفته؟ ثم لماذا هذه العدائية التي تخاطبني بها؟ لم تصرخ؟
– شو بكي سكتتي؟ احكي..
لم اسمع أمي تخاطبي بهذا الاحتقار.
وجّهتُ كلامي لأبي.. لا زيادة ولا نقصان:
– بابا.. أنَس بدو يجي يطلب ايدي منك..
صفعة واحدة كانت كفيلة بأن افقد توازني.. احسستُ بسائل ساخن في أنفي وبحرارة في عينيّ.. دارت الغرفة بي واجتهدت كي لا أقع أرضاً.. كنت مذهولة.
– “هيدا اللي بعد ناقص وبكل عين وقحة- علا صوت أمي مستنكراً، مستغرباً- “شقفة مسلم ومصري كمان”!! سمعت صدى صوت أمي يرنّ في أذني..
وهل في دينه وجنسيته إهانة؟ قررت أن أرفع سقف التحدي فقلت:
– أنا وأنَس منحب بعض!!
وقف أبي ورفع يده يريد أن يصفعني مرة أخرى، لكنه تراجع.. ثم قال كاتماً غيظه وأعلمني بقراره النهائي السريع:
– من الآخر.. اسمعي شو بدي قول.. يا نحن والجامعة أو هيدا اللي اسمو أنَس”!
لملت نفسي وتوجهت نحو غرفتي، هالني أن أكتشف أن في بيتنا، كل هذا الحقد والتمييز.. أن حبي لأنَس فجّر صدمة.
تركت أمي وقد جلست على الكرسي وهي تضرب ركبتيها بكفيها، تعايش مصيبة حلّت.. ابنتها الكبرى، شمعة بيتها، شبيهتها في الشكل وفي الأخلاق، زينة تربيتها.. أحبت مسلماً..
أما أبي فقد اتكأ على الحائط، محنياً ظهره كمن خسر معركة عمره.
لم انكسر أبي؟ ما الذي فعلته كي يشعر بهذه المهانة؟ من أين أتت أمي الطيبة بكل هذه القبح؟
أين كل الودّ للآخر.. أين كل الحب للآخر؟ ألستُ أترجم أفكار التواصل معه؟ هل كان خداعاً؟
كسرا خاطري؟ وجعلاني أكسر خاطرهما؟
القرار الأخير لي ولعمر.. ولكن..
بقيت في غرفتي اسبوعاً كاملاً حتى خفّ تورّم وجهي وطاب جرح شفتي..
عاقبني والداي بصمتهما القاتل، وتصرفا طيلة أسبوع وكأنني غير موجودة، منعا شقيقتي من التحدّث إلي.
كنت اذا جعت، أتسلل إلى المطبخ وأختلس القليل من الخبز والزعتر، وإذا عطشت أشرب كمية غير ملحوظة من الماء.. ثم أعود هاربةً مسرعةً إلى غرفتي.. عشتُ جحيماً..
كم كرهتهما..
كم استنكرتُ اسلوبهما ورفضهما لعمر.. حتى أنني تجرأت واحتقرت ترفعهما عنه، لمجرّد أنه “آخر”.. كم استصغرت كذبهما حول التآخي وقبول الآخر؟
كم استغربت أنهما ربياني على أننا أبناء إله واحد، شركاء في وطن واحد وأرض واحدة وهواء واحد..
وكلنا من التراب وإليه نعود؟
وتساءلت كثيراً عما سأقوله لأنَس عن غيابي لأسبوع؟ وابتهلت الى الله أن لا يتحمّس ليأتي الى بيتنا ويسأل عني.. وقد شعر بي.. واللهِ شعر بي..
الآن أراه.. في اليوم الثالث لتغيّبي عن الجامعة يهمّ بالتوجه إلى بيتنا.. وأراني أخاطبه في سرّه.. أرجوه أن لا يأتي إلينا.. لاحقاً قال لي إنه أحس أنه لا يجب أن يأتي كي لا يحرجني.. ألا تتخاطب القلوب عن بُعد؟ بلى..
حينها، تمشّى في غرفته حائراً في ما يفعل وقلبه أرشده إلى عدم المجيء الينا هذه أنا يا أنَس.. كنت أنا من همست في قلبك أن لا تأتي.
ها أنا أراه الآن قاصداً بيت سالي ليسألها عني.. –
– ما تخاف أنَس.. روز بخير.. يمكن أهلا عندن شوية تحفظ مني..
أنَس ارتاح مثلي.. بعد أن ظنّ، مثلي، أنه قد يكون معنياً بعدم خروجي من البيت.. لاحظ أنَس نظرات أمي، وخاف منها.
كم للروح قدرة على التسلل عبر الأزمنة، إلى الأمكنة، خارقة كل الأبعاد.
وقررت أن لا استسلم.. سأذهب غداً إلى الجامعة.. أسبوع شوق يكفي.
وطلع أخيراً صباح الغد..
ارتديتُ ملابسي باكراً وجهّزت نفسي لمواجهة جديدة قد تحصل.
أعرف كم تألم أبي من صفعه لي، آلمه كفه وزنده و.. قلبه أيضاً.. ظل عابساً طوال يومين.. وأمي أيضاً.. أحزنها أن تهينني.. لكن، كان عليهما تأديبي..
غريب فرق الزوايا التي ننظر منها إلى الأمور.. أرادا أن ينقلا قلبي وتفكيري الى حيث يعتقدان.. لا مكان وسط يجمعنا.. هما ونحن.. أمي وأبي، أنَس وأنا.
كتمت دمعي وأنا أقف قبالتهما بكامل ملابسي. يدي على خدي وشفتي قلت:
– صباح الخير.. بعد إذنكن انا رايحة هالجامعة.
كانا يشربان القهوة على الشرفة مشيت وأنا ارتجف لكن صوت أبي جمّدني في مكاني.
– روز.. في نبرته عطف ولطف حتى كدت أرجع إليه وأرتمي على صدره وابكي.
– نعم.. قلت بصوت بالكاد يسمع..
– انا يمكن هيديك اليوم قسيت عليكي شوي بس بدي مصلحتك بتمنى اللي صار ما يتكرر.. بابا حبيبتي.. الأهل بيعرفوا مصلحة الولد أكتر منو.. نحن بعالم وهني بعالم تاني، نحن جوّنا وتقاليدنا شي وهني شي تاني.. منحترمن ومنحبن من بعيد لبعيد.. عم تفهميني؟
لم أنظر إلى عينيه.. فأنا لا أفهم ولا أريد أن أفهم.. لا أريد أن أنفصم.. لن أضع مواصفات وشروطاً في حبي لعمر.. ولا مقاسات تناسب غيرنا.. ولا تقاليد تسري وتنتقل.. حبنا أنَس وأنا يريد أن يلغي كل بالٍ من الأعراف والأفكار والموروثات..
لم أرفع عينيّ إلى عينيه فيرى دمعاً علق بين جفنيّ.. خفت.. اكتفيت بأن هززت رأسي موافقة وتابعت طريقي.
أحب أمي وأحب أبي.. لم أرفض طلباً لهما طوال عمري.. لكن حبي لأنَس مختلف.. ليس أكبر لا.. لكنه آخر.. لن أخسره.
وكأنني غبت عن طريق الجامعة دهراً..
كم اشتقت لهذا الرصيف والياسمين المنثور على الأرض كأنه سجادة فرشت لي.. كان تخيّل لقائي بأنَس يجعلني أبتسم.
وصلت إلى الجامعة ها هو أنَس بانتظاري.. جالس على حافة حوض الزهور.. حين رآني وقف واقترب مني بلهفة.. أمسك بيدي وتأمل وجهي.. فهم كل الحكاية.
– روز.. بحبك قوي ولا يمكن أتخلى عنك.. حا كلم ابوكي الليلة.
– ارجوك أنَس اذا بتعمل معروف ما بيعودوا يخلوني اضهر من البيت..
لم أشرح ولا أنَس سأل، لكنه فهم أن ثمة أمراً مؤلماً حصل.
هل أقول له إن السبب هو فرق الدين؟
هل أقول له إن كل ما كانا يقولانه عن التآخي والأخوة في الإنسانية، ما هو إلا شعارات غير قابلة للتطبيق؟
هل أقول لأنَس؟ إن جلسات رمضان مع جيران الرضا كانت كاذبة؟
حتى أم محمد وأبو محمد نفرا منا.. بالتدريج.. خفّت الزيارات المتبادلة، حتى اختفت.. وبابهم “المغلوق” أقفل..
لاحظت أن أمي تغيّرت مع جارتنا أم محمد. صار سلامهما ثقيلاً وابتساماتهما حذرة.. ولم يعد أبي يدعو أبو محمد لقضاء السهرة عندنا.. وامتنع أبو محمد عن ملاقاة أبي على فنجان قهوة الصباح، قبل أن يتوجه إلى عمله كسائق لسيارة الأجرة..
أي عداوة ولدت؟ كيف؟ متى تعمّقت إلى هذا الحدّ؟
من بدأ بكره الآخر أولاً؟ لا أعرف..
هل أقول له إن والدي خيباني؟ وأنه بالنسبة لهما مجرد “هيدا” لأنه مسلم؟ ولأنه كذلك فهو مرفوض؟
هل هما منفصمان عن قناعاتهما؟ لمَ ربّياني على حب الآخر إذن؟
عاندت وقلت سأواجههما مرة أخرى.. رفض أنَس خوفاً عليّ من صفعة أخرى..
وقرّرت أن لا أكون مثلهما.. أن أعيش بوجه واحد.. قرّرت أن لا أنفصم..
وقررت أن أهادن أهلي.. لن أكذب، لكن لن أقول الحقيقة، إنني أحب أنَس وإنني اخترته.
ونضجت فكرة أننا راشدان، ناضجان، وأنه بإمكاننا أن نقرّر مصيرنا بأنفسنا، أنفسنا الطيبة الصادقة التي تعيش ما تؤمن به خارج الخداع الاجتماعي المقيت.
مرّ العام الدراسي الثاني، ولم أقصّر في دراستي، ولم أتأخر يوماً عن أنَس ولا هو تأخر عني.
أي غول إقصائي خرج من صدر أبي وأمي.. ليصل بهما الأمر إلى تجهيز كل شيء لنهاجر إلى كندا..
بحجة أن البلد لم يعد يطاق.. نسافر؟ وجامعتي؟
بسّط أبي المسألة: بكندا فيه أهم جامعات.. كان حل السفر هروباً ليس من البلد.. أبداً، بل لأني كنت أبتسم بلا سبب.. أتنهد دون أن أنتبه.. أدندن أغنيات الشغف والشوق.. بان عليّ حبّ أنَس.
فوجىء أنَس حين أخبرته بقرار أهلي الجاد في الهجرة، فسرّع في مسألة هجرتي إليه..
رتّب أنَس كل شيء واصطحبني إلى بيتٍ في المقلب الآخر للمدينة، في حيّ لن يخطر ببال والديّ إن حاولا البحث عني.
طابق أرضي يا الله ما احلاه في مبنى من ثلاث طبقات غير مسكونة، إلا بنا.. أصحاب المبنى هاجروا وأوكلوا أمر إسكانه إلى صديق لهم، هو صديق لعمر.. لم يكونوا بحاجة للمال.. بل فقط لمن يشغله كي لا يحتله مهجّرون..
هذا سيكون بيتنا حين نتزوج؟
ابتسمت فرحة بالفكرة ووافقت على الفور.
كل شيء جرى بسرعة خارقة.. أوراق هجرتنا إلى كندا قُبلت.. والموعد تحدّد:
– شهر بالكتير..
شهر؟ الوقت كحد السيف.. يقطع بسرعة..
وبقي على “السفر” أسبوع واحد.. إلاّ أننا سابقنا الزمن الآتي بقرارنا.. أنَس وأنا..
رتبنا هروبي من البيت، سينتظرني عند المفرق، ويرسلني بسيارة تاكسي إلى بيتنا والباقي تفاصيل..
حددنا الموعد على توقيت خروج أمي وأبي لشراء بعض الحاجيات الضرورية لشقيقتي لزوم الهجرة، ولا لزوم لأرافقهم “بدي رتب الشنطة”..
ما أسرع بديهتي في اجتراح كذبة.. وبقيت وحدي..
راقبت مغادرتهم بالسيارة، ثم وبسرعة فائقة، حشوت حقيبتي الكبيرة التي كانت مخصصة للهجرة، بكل ما يخصني.. كل أغراضي وضعتها في الحقيبة الكبيرة.. صحيح.. كنت أريد أن أمحو من حياتهم كل أثر لي..
وخرجت من بيت أهلي.. من بيتي.. من بيت ولدت فيه، ولعبت وضحكت، وقرأت وتعرّفت على الآخر الذي لم أعرفه مختلفاً حتى نَمَتْ تلك الجرثومة المقيتة فيه.. تغذّت بفعل حب؟ كيف هذا؟
جررت حقيبتي ولم أنظر إلى الخلف.. سأشتاق أهلي وبيتنا، لكن شوقي لن يكون بحجم ألمي لو افترضت أن أنَس سيكون بعيداً عني.. خيّراني فاخترت.
لاقاني أنَس عند المفرق.. كان سعيداً بي مثلي، بل أكثر.
حمل الحقيبة وفتح باب سيارة التاكسي وطلب من السائق أن يوصلني إلى عنوان “بيتنا”.
لم ينس أنَس أن يعطيني “نسخة” عن مفتاح البيت أحضرها معه..
ياه.. ما أجمله من شعور أنني ذاهبة إلى بيتنا.
أوصلني السائق الى بيتنا، وكان لطيفاً جداً وحمل الحقيبة ووضعها أمام الباب، ثم قال لي باسماً:
– مبروك.. خطيفة؟
بحلقت في عينيه.. صحيح.. زواجنا أنا وأنَس بهذه الطريقة اسمه “خطيفة”.. لكنني لم أفكّر في أن كل التواريخ العائلية تعيد نفسها.. إلا الآن.. هنا.. وأنا في “كوماي”.
ليتني قلت لأمي وأبي، إن حبنا أنَس وأنا مثل حبكما، واجه اعتراضاً.. لكنكما صمدتما.. ليتني.. حتى لو قلتما لي إن هذا غير صحيح، وإن الصليب الذي جمع قلبيكما، كفاكما شرّ الفراق.. ولكن معي فالأمر مختلف، فقد خنت ديني وصليبي واخترت آخر باسم الحب.
عاد أنَس بعد ساعة ومعه فوزي وصديقاه محمد وناجي، خبرني عنهما، وأيضاً جاء الشيخ محمود لعقد قراننا..
لم أصدق أنني فعلتها..
..يتبع