رواية بين “هنا وهناك”- الحلقة الثالثة

من بيروت إلى مصر..

أرى أنَس واصلاً إلى مدخل الفيللا.. ها هي تانت ليلى تقف عند باب الصالون، وسيارة سائق العائلة تتوجه به إلى الداخل..

ها هو ينزل مسرعاً إلى عناقها.. والده توفيق بيك فخور بوحيده، يتبعه وهو يتأمله بفخر.. كم هي جميلة وأنيقة في مشاعرها..

– “وحشتني وحشتني موت يا أنَس”.. نبرتها ذكّرتني بسيدات الشاشة العربية.. كانت تشبه مديحة يسري..

عانقها أنَس وأغمض عينيه وقبّل جبينها وقال بلهفة ابن مشتاق:-

-“وانت كمان يا روح قلب أنَس.. ايه الجمال ده ليلى هانم.. عندي ليكي أخبار حا تفرحك قوي”..

أبعدته عنها للحظة وتأملته للحظات.. عرفت ليلى هانم أن ابنها غارق في الحب.. كنتُ ساكنة فيه ولم يكن بإمكانه أن يخفي شعاع حبنا عن حاسة أمه السادسة..

ها هي مدبرة المنزل دادا حليمة تسرع لضمّ أنَس وتقبيله، هي ربّته، وحكت له حكايات ما قبل النوم، وسوسن ابنة اختها تحييه بأدب.. ها هو عم معتزّ يسرع لملاقاته وسامي السائق ينزل حقيبته من صندوق السيارة.

حبيبي أنَس.. كأني معكم الآن..

على جلسة شاي، وبانتظار لمّة العشاء، جلس أنَس ووالديه في الصالون، يحدثهم عن ظروف لبنان والحرب التي لا نهاية لها والسلم الهش، حلّل له توفيق بيك مطامع الدول في هذا البلد الصغير.. وخبث زعماء زواريب الحرب الدائرة فيه كطاحونة، تجرش كل شيء، ولام أهل البلد الصغير كثيراً.. كيف ماجوا مع المائجين.

-“بكرا تشوف” ابتدا الكلام عن مؤتمر لإنهاء الحرب البشعة في لبنان.. والنتيجة، تقاسم البلد والمشاريع المربحة فيه لما يعم السلام”.

وتحدثا في أمور الشركات وأخبره توفيق بيك أن مشروعه المقبل، هو أن افتتاح مكاتب لشركته في إيطاليا وفي ماليزيا، ولاحقاً سيكون دور أنَس في أن يضع نبضَ شبابه في إدارة أعمال الوالد.. لم ينس أنَس  أن يخبر والديه برغبته في تسجيل اختصاص آخر.

ها أنا أرى ليلى هانم وتوفيق بيك يتبادلان النظرات المستغربة..

وصعد أنَس إلى غرفته.. أسرع إلى أخذ حمامه الساخن.. ومسرعاً التجأ إلى السرير، طالباً نوماً يفتح له بوابة رؤيتي..

ها أنذا أراني أتمشى في حلم أنَس.. أضحك، أحكي، أرافقه في طرق كلها ورود، نجلس تحت الشجر، نثرثر، نضحك، نبادل القبلات الخجولة.. حولنا طيور وطبيعة ساحرة.

كم يحبني أنَس  .. يحبني كثيراً وأنا أموت شوقاً اليه..

عند الصباح.. استيقظ أنَس باكراً كنت برفقته طوال الليل.

سمعته يحدثني ويعدني أنه غداً سيحكي لوالديه عني..

وحدّثهم أنَس عني..

كم كان كلامه جميلاً ولطيفاً ومحباً وصادقاً.. قال إني جميلة ومهذبة وذكية وظريفة وخفيفة الظل ومحترمة.. حبيبي أنَس هكذا يراني..

رمشت عينا ليلى هانم مع احتفاظها بابتسامتها الشيك.. كيف يمكن أن يكون هذا الوصف لصبية واحدة. لم ينتبه أنَس لكن أنا الآن أرى.. كيف أنها لم تحبني.. منذ اللمعة الأولى في عيني أنَس.

أراها الآن.. كلما حكى أنَس عني بذاك الحب الذي يوصف ولا يوصف.. أبعدت عينيها عنه.. لا تريد أن تراني فيهما..

-“بنت مين تبقى اللي اسمها ايه قلتلي؟” سألته برنّة صوت فيها من الاستصغار، القدر الكثير.

أخبرها عن بيتنا، وعن عاداتنا الجميلة، كيف تقام في بيتنا موائد إفطار على شرف جيران الرضا وأصدقاء العمر، أم محمد وأبو محمد وأولادهم الخمسة..

ها أنا أرى ابتسامة غريبة ارتسمت على شفتي ليلى هانم، فقط شفتيها.

-“طيب حبيبي- قالت وهي تمسح فمها بطريقة شيك، تشبهها- أنا عندي موعد مع مدام سونيا وصلت الكوليكسون الجديدة ومش عاوزة افوّتها استأذن أنا”..

ثم خرجت.. كم أريد أن أتبعها لأغوص في رأسها فأعرف ماذا دار فيه في تلك الساعة.. لكنني أبقى مع أنَس.. أشعر بغصّته.. لم يستطع أن يفسر سبب انسحاب ليلى هانم.. وتفضيلها الكوليكسيون الجديدة على حب حياة ابنها.

خسرتُ سالي

ها أنا في “كوماي” أتنقل بين مراحل “فيلم” حياتي.. وأعيشها، مشاهد منتقاة..

لِمَ هي دون غيرها؟ لا أعرف..

هل هذا ما يجري في عالم الكوما؟ لا أعرف..

في محطة الانتظار.. من يختار ذاكرتنا المفتوحة على هذه الأحداث أو تلك؟ لا أعرف..

كم مرّ من الوقت حتى الآن.. لا أعرف!!

وأعود إلي بيروت.. في بيتنا..

صباح هذا اليوم، كنت في غرفة شقيقتيّ الصغيرتين، اساعدهما في دروس العطلة الصيفية.. كم هي مملّة.. كأيامي الطويلة الطويلة التي ستمضي بعيداً عن أنَس..

وكانت أمي تنشر الغسيل.. ليتها وافقت أن أنشر أنا الغسيل.. كنت أحب أن أضع الملقط الخشبي في طرف فمي، وأنفض الشرشف، ثم أعلّقه في عين الشمس.. لكن أمي لم تقبل.. خافت أن أوقعه أرضاً، أو أن ألوّث بياضه الأنصع من الثلج..

-“أهلا سالي”..

سمعت صوتها من طرف الملقط الخشبي في جانب فمها، لم تسحب الملقط لتحكي سالي.

قفز قلبي من مكانه فرحاً بمجيء سالي.. فأسرعت الى الشباك كي ألوّح لها بيدي وأناديها.. لأعانقها وأشمها.. هي من رائحة ذاكرة أنَس.. طبعاً للذاكرة رائحة.

وأسمع صوتها اللطيف الحيّ..

-كيفك تانت؟ بعد ما رجعت روزا؟ طوّلت السفرة.

– شفتي؟ سألت أمي جواباً على سؤال.. وهي لا تزال تنفض الشرشف وتنشر بدقة متناهية.. الطرف على الطرف.

– وايمتى رح ترجع؟ تعجّبت سالي..

– يمكن ما ترجع- قالت أمي بنبرة غريبة، وأضافت- حابة تبقى عند عمتا باستراليا وحابة تعملا كنّتا..

– طيب شكراً كتير.. سلمي عليا..

تجمّدت في مكاني، خلف الشباك.. يدي على طرف الستارة، أزيحها قليلاً..

أرى سالي تغادر، تبدو الخيبة على وجهها تكاد تبكي بل هي تبكي.

هذه دموعها مالحة تنزل من طرفي عينيها. أشعر بطعهما.

لم يرحم بيتُنا سالي.. طردتها أمي بعيداً، والملقط محشور في طرف فمها.

ولم تشفع لها شخصيتها الكريمة المحبة، سحب أبي وأمي كل اعتراف بها وكل ما أغدقاه عليها من مديح.. كانت نيتها أن تجمعنا أنَس وأنا في جوّ عائلة متحابة.. فعزلاها عن صداقتي.

انتهى الموضوع بالنسبة لأهلي، فقَدَت سالي مباركتهما، ولا يجب أن تكون صديقتي، إنها “بنت مش منيحة، ما بتسوا”.. وهذا غير قابل للأخذ والردّ والدفاع عنها ولا للنقاش.

تفهّمت سالي موقف أمي. أراها تنظر إلى الشباك تبتسم لي وفي ابتسامتها هيئة خيبة، وتقول عيناها: “بحبك كتير روز.. ما تخافي الإيام بترجع تجمعنا.. سامحي ماما هيك شايفة صح”.

سمعت ما قالته عيناها.. من قال إن صوت العيون لا يُسمع.

اخترعت أمي كذبة السفر عند عمتي الميتة وتزويجي من ابنها الذي تزوّج وأنني لن أعود، كي تبعد سالي عني..

ها أنا أشعر بنارين.. نار سلخ سالي عني ونار إحساسي بالذنب..

لم أتمكن من أن أسرع خلف سالي، وأشدّها من يدها لأقول لها لا تذهبي.. لكني لم أجرؤ.

ها هي يدُ أمي تلمس كتفي ثم تسحبني من أمام الشباك الى حافة السرير، تجلسني برقة وها هو صوتها الرقيق يواسيني:

– “ماما.. ما تزعلي مني.. اضطريت أعمل هيك.. اضطريت أكذب عا سالي.. قلتلا إنك مسافرة ويمكن ما ترجعي بعتقد ما بقا رح تسأل عنك.. روزا حبيبتي ما تفهمي موقفي انو احتكار لقراراتك أو اختيارك لأصدقائك.. بس أنا أفهم منك حبيبتي.. سالي مش إلنا ولا رفقاتا.. البنت يللي بتفوت عا بيتا شباب وبالليل هي بنت مش منيحة ونقطة عالسطر.. بتمنى عليكي ما تسألي عنا وعديني ما تلوميني انا بعرف مصلحتك أكتر منك”.

أجهشت ببكاء مرّ.. “بس انتي حبّيبتها وقلتي انها قديرة وطيبة و..”

قاطعتني:

– “انغشّيت فيها بعترف”..

حاولت أن أستوعب الموقف وأدافع عن صديقتي:

– ماما.. سالي ما بتفوت شباب لعندا عالبيت..

– شو كانوا عم يعملوا هالشبين عندا.. المصري ورفيقو..

– “كانوا..” خنقت باقي الكلام في حلقي بعد أن أبوح بالحقيقة.. على لمحة.. كدت أكشف أن أنَس جاء لأجلي..

وتابعت كأنها لم تسمع ما قلت وكأنها انتبهت إلى أنني خرست:

-“هيّ.. أو أي حدا من طرفا مش إلنا.. عم تفهميني روز؟”

خرجت أمي، لم تنتظر لأقول لها إنني لم أفهم.. ولا أريد أن أفهم.. وأن لي الحق بأن أميّز بين أن تكون سالي “منيحة أو مش منيحة”.. وأنها بريئة من كل اتهامات باطلة في سمعتها.. وأن أنَس جاء لأجلي.. وأنني أحبه وهو يحبني..

لكنني لم أجرؤ..

ارتبكت كثيراً.. وآلمتني أسئلة من نوع آخر: هل ستقول سالي لأنَس إني سافرت وسأتزوج من ربيع؟ لن يصدّقها أنَس.. أخبرته أن عمتي ماتت بالسرطان، وأن ربيع تزوج.. لكن هل يكون نسي؟

ثمّ.. سالي وأيّ مِن طرفها ممنوعان عليّ؟ أبعدت عن بالي أن يكون أنَس معنياً بقرار أهلي، حاولت إخفاء إحساسي به.

وانتهت عطلة الصيف.. بعد طول انتظار.. شغلت نفسي بغزل الكروشيه.. كما علّمتني جدتي وردة.. أنجزت خلال الصيف عشرات قطع الكروشيه.. لطاولات الصالون، لإبريق الماء الزجاجي، لعلبة المحارم الكرتونية، للتلفزيون وراديو أبي.. حتى أنني أنجزت شرشفاً لطاولة الطعام.. لم أشعر بالوقت معه..أي سرّ  كامن بين الصنارة وخيطان الكروشيه وأصابع يدي وبين تمرير الوقت؟ لمَ كرهت الصنارة والخيطان بعدها؟

تذكرني بابنتي..

ووصل اليوم الموعود، يوم عودتي إلى الجامعة.

لم أنَسَ سالي.. ولكن لقائي بأنَس كان أقوى فيّ كل أيام الصيف ولياليه أيضاً.. بين سالي وعمر، فكرت قليلاً بسالي وكثيراً جداً بأنَس..

و.. ها هي لحظة اللقاء بعمر، بعد طول صيف تأتي..

وها هو أنَس يسرع نحوي باسماً، ثم يفتح ذراعيه ويحملني ثم يضمنيإلى صدره، يتنفّسني، ويقبل عيني وشعري ورأسي وخديّ ويديّ.. ثم ينزلني على الأرض ثم يرفعني من جديد ويدور بي، غير مصدّق أنني بين يديه.. كم اشتاق اليّ.

وأمسك يدي وترافقنا الى الكافيتيريا.. حتى أبو هاني اشتاق لنا، واحتفى بنا.. وتركنا في زاويتنا الجميلة، خلف فاصل الشبك الخشبي..

صبّ أنَس كل اشتياقه في كفيّ وحرارة بثتها يداه فيّ، منطلقة من راحتي يديّ وصولاً إلى أطراف أصابعي التي خدّرها حنان القرب..

كل هذا الشوق، يعني أن أنَس لم يلتقِ بسالي، وأنها لم تخبره أنني سافرت وتزوجت وأن أمي طردتها.. ارتحت.

لم أشرب عصير البرتقال أو الشاي بل طلبت قهوة.. كبرت كثيراً في غيابه..

فرح بي وبقهوتي وشرب من فنجاني قبلة.

فرحتُه بلقائنا لم تخف عني ما خبأته عيناه من خيبة.. خبأتا أن والديه لم يوافقا على اختياره لي.. وكشف قلقاً بي.

– مش حاقدر أعيش من غيرك، بصّي.. نتجوّز ونحطهم تحت الأمر الواقع..

– إحنا ما نقدرش نعيش من غير بعض” أكملت عنه أقلّد لهجته، فابتسم بما هو أكبر من حب.

– خديلي موعد من عمي ألبير..

أحببت أسلوبه، في أن يكون صهر أبي.. أحببت تمسكه بي، أحببت حماسته، أحببته من جديد.. وتحمّست أكثر منه.. وأخبرته أنني سأخبر أهلي هذا المساء أن أنَس سيأتي ليزورنا في البيت ويطلب يدي.. لن يكون والداي كوالدي أنَس، اللذين جعلا ديني وجنسيتي عائقاً.. إن بيتنا نموذج انفتاح نحو الآخر وتعايش معه…

..يتبع

 

 

 

 

 

 

التعليقات