رواية “بين هنا وهناك”.. الحلقة 8

عزلتي..

ها أنا ذا الآن وحدي في بيت جدتي الذي صار بيتي.. خلفي خمس وعشرون عاماً هي عمري الذي مرّ..

كواني الانتظار.. انتظار من لن يأتي..

كل ما أذكره كان كيف اختفت روزا من حياتي.. في لمحة دخان.. كيف لم أكابر على وجعي وغيبوبتي وأسحبها؟ لكني لم أستطع.. هدّتني شظايا القذيفة التي انفجرت بالقرب من البيت والزجاج المتناثر، لكن كلام ليلى هانم غيّبني:

-أنَس حا يتجوز قريّب وبعتني اقولك هو آسف كنتي نزوة بحياتو.. خدي المبلغ ده اعتبريه تعويض عن الوقت اللي قضيتوها سوا..

فكّرت كثيراً بالانتحار.. أن أقطع عمري بيدي.. أشق معصميّ بالسكين حتى أنزف حتى الشهقة الأخيرة.. أن أرمي نفسي تحت سيارة مسرعة على طريق عام.. أن أشرب سماً، أن أعلّق حبلاً وأتدلى منه حتى النفضة الأخيرة.. لكن خفت من عذاب ربّي..

ها أنا الآن في “كوماي”.. أتمشى بين أيام حياتي الماضية.. رحلات غريبة لا أريد أن أغادرها..

أفّ!! يا لهذه الأفكار التي تختلط في رأسي..

يا لهذه الحكايات التي تتدافع الآن لتخبر.

أراني أفتح عيني لأجد نفسي في المستشفى وأنطق باسم روزا ابنتي، التي لم يجدها أحد.. وجدوا فقط قبعتها الزهرية التي غزلتها بيدي.. وأسِفوا لأني فقدتها.. إحدى الممرضات بكت.. لكن من يشعر بالقهر الذي ينخر عظامي؟ من يصدّقني إن قلت إن قلبي لم يخبرني أنها ماتت.. هل تكون أصيبت بشظايا، هل نزفت.. هل خطفت؟ أما أن تكون ماتت.. لا.. قلبي أعرَف..

أيام كثيرة.. قليلة.. لم أعدّها، بقيت في المستشفى.. أي قيمة لعدّ الوقت بعد غياب الأحبة..

صرت بلا أحد.. لا أحد..

كل أحبتي غابوا.. وانتقلت لأعيش في بيت جدتي الذي صار بيتي..

تبرّع الدكتور يوسف الذي أشرف على علاجي في المستشفى، أن يوصلني الى هناك، بعد أن اطمأن الى أن الجروح التي أصابت جسمي بفعل شظايا القذيفة.

في الطريق من بيروت إلى جبيل، سألني الدكتور يوسف كيف سأتدبّر شؤوني ومعيشتي.. عزّ عليّ كبريائي.. كيف أقول له إنني بلا معيل ولا مهنة ولا أملك سوى خيباتي؟

لعل الدكتور يوسف فهم من “الله بيدبّر” التي قلتها بصوت تخنقه عزة النفس.. فقال:

-ما تقلقي روز.. بعرف ست نشيطة وقديرة وعندا جمعية بتساعد الستات اللي متل حالتك.. رح احكيها اليوم..

أوصلني الدكتور يوسف الى باب البيت.. ثم وقبل أن أنزل من السيارة، مدّ يده إلى جيبه وأعطاني مبلغاً من المال..

-رح اعتبرن دين.. ما تقولي ولا كلمة..

غصّت عيناي بدمع مالح.. هل فاتحة حياتي الجديدة أن أعيش على إعانة؟

فكّرت للحظة أن أبيع السلسلة الذهبية التي أهداني إياها أنَس.. لكن أيقونة السيدة والعذراء، وآية الكرسي الكريمة، قناعتيّ، لأجلهما دفعت ثمناً باهظاً، عمري..

لن ابيع عمري.. أي سعر أغلى منهما؟!

لم أتمنّع.. ووعدت نفسي أن أفي دين الدكتور يوسف.

كنت أعرف أين تخبىء جدتي نسخة عن مفتاح البيت، جدتي كانت ذكية، تحسب حساباً لكل شيء..

-إذا شي مرة جيتي وما لقيتيني.. رح دلّك عالمفتاح.. بتفوتي هيدا بيتك من بعدي.. تعي يا تيتا..

ومشيت خلف صدى صوتها.. الى الباحة الخلفية للبيت.. هنا في حوض الزهور.. نكشت قليلاً بقطعة خشب، فوجدت المفتاح مخبأً في قطعة من النايلون.. لم يصبه الصدأ إلا قليلاً..

فتحت الباب ودخلت.. رائحة جدتي في البيت.. لا أعرف كم مرّ من الوقت وأنا جالسة على الكنبة.. أتأمل تمثال السيدة العذراء وأبكي..

-دخيل اجريكي يا عدرا. رديلي بنتي..

وحلّ المساء.. وأنرت قنديل الكاز.. لا كهرباء في بيت جدتي.. ولا شيء.. حتى صدى ذكريات الطفولة غاب عني.. لم يبق سوى حاضر يحاصرني يجعلني مسبوعة.

لازمني الصمت طوال ليلتي الأولى هنا.. وكأنني تجمدت..

طلع الصباح.. وأنا خارج التوقيت.. عقارب الساعة المعلّقة على حائط الغرفة، متوقفة عند السابعة والنصف.. أي سابعة ونصف من أي يوم، من أي شهر، من أي سنة.. لا اعرف..

ألم فظيع في كتفي وفي رأسي وفي صدري حيث جروحي لا تزال طازجة.. وقفت بصعوبة.. عليّ أن أستكشف المكان الذي سيكون قبري طوال عمرٍ آتٍ..

يا الله كم يحتاج البيت الى شغل.. عزّاني هذا الأمر.. قد يبعد عملي الكثير أفكاري الحزينة.. يبعدها قليلاً.. قليلاً فقط..

في المطبخ بعض أدوات التنظيف.. كم كرهتها.. هل من العدل أن تبقى هي وتموت جدتي؟ أفقد ابنتي؟ أخسر أهلي و.. أنَس؟ وهي باقية؟

وجهزت نفسي لأن أغوص في مهمات التنظيف.. لكني جائعة.. وعطشانة.. ولا أملك مالاً.. بلى بلى.. الدكتور يوسف أعطاني مبلغاً من المال..

ومع أنني لا أريد أن أرى أحداً أو أقابل أحداً ولا أن أتحدث مع أحد.. لكن عليّ أن أخرج الى السوق لشراء بعض ما أحتاجه..

حملت المفتاح بيد ووبيدي الأخرى قبعة ابنتي روزا.. سأظل أشمها كل الوقت.. وتوجهت الى الباب لأفتحه..

وفتحت الباب.. معقول؟ إنها سالي..

كيف لم أفكر في أن سالي هي صاحبة الجمعية التي تحدّث عنها الدكتور يوسف؟ من أين لي أن أعرف وأحلل وأستنتج؟

سالي أيضاً لم تتخيّل أن تلتقي بي.. من أين لها أن تعرف أنني أنا التي غادرها كل فرح ممكن؟

قصدتني على اساس أنني مسكينة متروكة وبحاجة لعمل يعينني على تأمين قوت عيشي.

جاءتني وهي تحمل معها كوبي قهوة ساخنين وكيساً فيه مناقيش للترويقة.. وصندوقاً فيه بعض المؤونة.. أرز، شاي، سكر، خبز، برغل، زيت وماء للشرب.. كما تفعل مع كل من تتولى الإمساك بأيديهن لعبور صعاب الزمن.. وكثير من الأكياس نقلها سائقها الى المطبخ على دفعتين، ثم طلبت إليه أن يعود في المساء..

-روز.. روز.. مش عم صدق عيوني؟ شو اللي صار معك؟

خبّرت سالي كل شيء، وتشابكت الحكايات التي تراكمت في افتراقنا عن بعضنا البعض، سالي وأنا، لعامين وأكثر قليلاً..

طمأنتني أنها ستكون إلى جانبي.. وأننا معاً سنجد حلاً لأي عقبة تعترضني..

الآن أعرف أن سالي قصدت الجامعة العربية وسألت عن أنَس وحصلت على رقم هاتف الفيللا.. وأنها حاولت أن تتصل به هاتفياً إلا أن ليلى هانم كانت بالمرصاد، وقد أمرت بإجابة واحدة.. أن أنَس تزوّج..

إن أنَس تزوج فعلاً..

أعرف الآن أن ليلى هانم عادت من بيروت يومها، عبر مطار دمشق الدولي، وبين يديها ابنتي روزا.. روزا التي صرخت وارتعبت حين ضج صوت القذيفة وارتميت أرضاً وأفلتت من يدي رغماً عني.. بكت كثيراً.. ثم هدّها التعب والانتقال براً ثم جوّاً.. فنامت.. ظلت ليلى هانم تردّد أنها أنقذت روزا في اللحظة الأخيرة وسحبتها من جثتي المقطعة، عبر الحواجز والمعابر وأجهزة الأمن.. حتى صدّقت.

إلى بيت جدها وأبيها، عادت روزا يتيمة الأم.. رعاها أنَس برموش عينيه.. فهي ما بقي له مني.. ولأجل تربيتها وافق على الزواج من قريبته سعاد التي أصيبت بحادث في طفولتها منعها من الانجاب..

كانت سعاد تعشق أنَس عشقاً لا يوصف.. لقد احتملت أن يصارحها بأني حبه الوحيد والأول والأخير.. واطمأنت أني تشظيت ولم أعد أشكل خطراً عليها..

أما روزا.. حبيبتي، فقد كبرت في الفيللا.. طفلة ثم صبية موهوبة وجميلة ومبدعة رسم وتصميمات..

وظلت حياة الفيللا منتظمة، ثابتة رغم كذبة عمرها خمساً وعشرين سنة.. إلى اكتشفت روزا أنني حقيقة وأنني لم أمت في تفجّر القذيفة بالقرب من بيتنا..

في حفل تخرج روزا، والفيللا تغصّ بالمدعوين وبالفرح، أصيبت ليلى هانم بإغماءة مفاجئة، استلزمت نقلها الى المستشفى على الفور.. وبعد فحوصات دقيقة تبين للفريق الطبي المختص أنها تعاني من ضعف في عضلة القلب..يربك الجميع طبعاً.. فليلى هانم محبوبة الجميع.. أنَس، روزا، سعاد.. الخدم جميعاً إضافة الى كل الأصدقاء والمعارف.. هي الست الكبيرة التي لا يفوتها تفصيل بروتوكولي، هي سيدة الأصول والذوق والشياكة والنضارة الدائمة..

ظلت حبيبتي روزا طوال الليل في غرفتها ساهرة لتنجز تصميماً لحلية تحمل حرفي اللام والراء.. الحرفان الأولان من اسم جدتها واسمها، ركبتهما على شكل عين تتوسطها حبة فيروز وابتسمت.. هي تريد أن تقدّم لجدتها ما يشبه التعويذة لتردّ عنها كل عين حاسدة..

أرى روزا ابنتي وهي تحمل الكيس الورقي الجميل وفيه الهدية التي صممتها ونفّذتها طوال الليل، أراها وهي تقترب من باب جناح جدتها في المستشفى، أراها متحمّسة وسعيدة في أن تدخل الفرحة الى قلبها الضعيف الذي قد يتوقف عن الخفقان في أي لحظة، وقد لا يتوقف إلا بعد عمرٍ  طويل..

ها هي تخرج الحلية- الهدية من كيسها وتنظر اليها ثم تبتسم.. ثم تقترب من الباب لكنها تتوقف فجأة حين تسمع صوت سعاد مرعوبة:

-إيه..

أم روزا لسه عايشة.. لما خدت البنت كانت امها لسه بتقول بنتي بنتي.. يعني ما ماتتش..

.. يتبع

التعليقات