قرار عادل

من سريره الذي التصق به منذ أكثر من تسع عشرة سنة، صار الوالد يراقب ما يجري.. كاد يكون سعيداً..

عادل أصرّ على أن يكون الحديث أمام الوالد.. فهو يريد إبلاغ العائلة بالأمر المهم وحذّر الجميع من التأخر عن الموعد المسائي، بحماسة طفولية، لا يلجأ إليها إلاّ عند الإرتباك.. ما أشد ارتباكه هذا المساء ..

من سريره الذي التصق به منذ أكثر من تسع عشرة سنة، صار الوالد يراقب.. ما الذي يستطيعه غير المراقبة؟! هو الحيّ الميت المعطّل إلاّ عن التذكّر والتنفس والنظرات الحزينة التي يوزّعها الآن على أولاده الخمسة واحداً واحداً..

ها هم حوله..

عادل وقد أكمل الخامسة والأربعين منذ شهر تقريباً.. إحسان التي تصغر عادل بسنة واحدة، هدوء غريب يغلّف وجهها وطقطقة أصابعها لا تنتهي.. هاني وسمير وقد أجلس كل منهما خطيبته الى يمينه، بانتظار النطق بالقرار وفرح آخر العنقود.. تنتظر مخابرة هاتفية من صديقها أنور الذي تخاطبه بلغة المؤنث وتسميه نورا حتى لا ينتبه إخوتها وخصوصاً.. خصوصاً حتى لا ينتبه إحسان.. فهي صارمة لا مزاح معها في تلك الأمور.. إحسان جدّية.. إحسان يخشاها الجميع ..

اضطرت إحسان أن تضع أحلامها الخاصة على الرفّ. أن تهتم بشؤون العائلة والبيت بعد وفاة والدتها، منذ تسع عشرة سنة، كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، تركت الجامعة في السنة الدراسية الأخيرة ونذرت نفسها للإهتمام بإخوتها.. فرح، الصغرى، كانت بحاجة الى الرعاية الأكبر، هاني وسمير وثم الوالد، الذي لم يحتمل ضغط الصدمة، فأُصيب بالشلل النصفي ثم .. ها هو التصق بالسرير وصار يراقب..

الكل بانتظار عادل.. الكل يحترم عادل. له مكانة الأب الذي أدّى دوره بالكامل. لم يكن الجميع جالساً كما الأخوة بل الأبناء..

بعد أن انتهى من توزيع العصير الذي حضّرته إحسان ووزّعه بيديه بعد أن لاحظ رجفة غريبة في يديها، قال:

“كنت أتمنى لو أنّ الوالدة كانت بيننا هذا المساء لتطمئن وتبارك الخطوة التي قررت أن أقدم عليها. لقد أتممت واجبي واطمأننت على مصير كل واحد منكم.. أنت يا هاني، في العام المقبل ينتهي تدرّجك في مكتب المحامي، صديقي الأستاذ فريد ومكتبك الخاص سوف يكون بانتظارك، سمير نتيجة امتحاناتك كانت ممتازة، ولن تكون إلاّ من أشهر مهندسي البلد.. فرح.. آه منك يا فرح.. سنتان فقط وتتخرجين من دار المعلمين لتكوني معلمة مدرسة كما كنت تتمنين منذ طفولتك..

وانتظر الجميع ما سوف يقوله لإحسان، التي طقطقت أصابيعها ثم طقطقتها وهي ترسم ابتسامة بلهاء على وجهها المستغرب كم ينتظر لفظ القرار.. “قد يكون اختار لي عريساً”.. قالت في سرّها.. لكن عادل قال : ” يبقى أنت يا إحسان .. أنت الشقيقة والصديقة ورفيقة الصبر والتضحية بأحلى أيام العمر. وأضاف وقد وجّه نظره إليهم جميعاً، مداورة- لقد تخلت إحسان عن أحلامها الخاصة، جميعها، حتى تهتم بنا، بالوالد المريض، بهاني بسمير وبك أيتها العفريتة الصغيرة”..

برقت دمعتان عزيزتان في عينيها.. تأثراً.

إنّها المرة الأولى التي يذكر أحدٌ جميلاً قامت به كل هذا العمر.. صحيح.. حتى هي نسيت من هي في غمرة العطاء.. في غمرة السنين كان همّها أن لا يشعر أحدٌ من أفراد العائلة بالضياع أو بالفقد.. مسحت دمعتيها وقد هدأ اضطرابها قليلاً.. لكن ما إن استمعت الى قرار عادل حتى صرخت من دون وعي.. “لا.. غير معقول!!” ومع شظايا الكوب الزجاجي الذي انزلق من بين أصابعها.. لملمت إحسان ما تبقى من تماسكها والإبتسام..

“قررت أن أتزوج.. وأترك لك يا إحسان هذه المرة أيضاً أن تلعبي دور أمي.. كما لو كنت ابنك الصغير.. عليك أن تختاري عروسي المقبلة. معارفك كُثر، صديقاتك، الجارات، بناتهن، أقاربنا.. تعرفين طباعي، عاداتي، ما أحب وما أكره وما أستنكر، ما يفرحني وما يغضبني.. إنتبهي- أضاف ممازحاً- الجمال صفة أساسية، الطول، بياض البشرة، المستوى العلمي ليس أساسياً.. العائلة المحترمة هي الأهم.. والآن أشكر لكم إصغاءكم- مازح الجميع- يمكنكم الإنصراف..”.

اقترب عادل من الولد، الملتصق بسريره يراقب. طبع على جبينه قبلة شكر على الموافقة التي أعلنتها عيناه. وانصرف الجميع .. هاني وسمير وخطيبتاهما الى العشاء للتفكير في هدية تليق بالدكتور عادل، الأستاذ الجامعي وعريس الموسم. فرح الى غرفتها لتثرثر هاتفياً مع أنور الذي تسميه نورا، ففي غرفتها أمان أكيد ..

أما عادل فقد خرج الى الشارع يتمشى كعادته كل مساء ..

وإحسان !! لملمت أكواب العصير، غسلتها جيداً، جففتها.. ثم رتبت المطبخ. مسحته . تذكّرت أنه عليها أن تعدّ للغسيل في الصباح التالي. رتّبت للغسيل .. ثم قشرت الكثير من البصل.. حتى غسلت ماء عينيها روحها التي ظلت حزينة..

حشرجة الوالد أخرجتها من انشغالها.. أسرعت إليه .

  • “ما بك؟” سألتها عيناه القادرتان وحدهما على النطق..
  • “لا شيء.. لا شيء أبداً.. أنا سعيدة لأنّ عادل قرّر أن يتزوج أخيراً.. لقد ضحّى عادل. عادل بذل نفسه لأجل إخوته، لأجل فرح، لأجلك، لأجلنا جميعاً. أنا سعيدة لأجله. سوف أختار له أحلى صبية. عادل يستأهل كل خير. يستحق الفتاة المثالية الكاملة. إبنة العزّ والدلال. عادل أستاذ “قدّ الدنيا”. جامعي مثقف. أحواله جيدة جداً. هذا بيته. مرحباً به وبعروسه. سوف أخدمهما بعيني!”

لم تنتبه إحسان أنّ الوالد سمع ما يقوله قلبها وعيناها وطقطقة أصابعها ..

“لم يعد عادل صغيراً لكنه لا يزال في عمر الزواج.. أنا لم أعد أيضاً صغيرة.. لكني لا زلت قادرة على خدمة الجميع”..

حنان فضل الله

التعليقات