كتبت حنان فضل الله
اتفقنا أنَس وأنا أن نسمى مولودنا الأول عيسى.. تيمناً بسيدنا يسوع المسيح.. في الإسلام اسمه عيسى.. وأنَس لن يحرمني من تذكّر ديني الحبيب.. لن ينسيني إلى من صليت وابتهلت وركعت.. سيكون اسم ابننا عيسى.. وإن ولدتُ بنتاً، سيكون اسمها روزا..
وولدت أميرتنا الصغيرة.. روزا..
روزا.. حبيبة عمري وأميرتي الصغيرة الجميلة الناعمة الأرقّ. ذكّرتني بي.. اسمها على اسمي مدلّلاً.. هكذا أراد أنَس..
حين انزلَقت روزا من أحشائي، هدأ الصراخ، وراح الوجع واستتبّ كياني على فرح استقبالها. وامتلكت الكون.
نسيت آلام شوقي الى أمي وأبي وشقيقتي.. هنا تاج حبي لأنَس بين يديّ.
صرنا أنَس وأنا عائلة.. قوّت روزا في حضورها حياتنا معاً.. كمّلتنا..
في الليل والنهار، وكأنها، غاليتي روزا، لا تعرف سوى الابتسام..
كابرنا أنَس وأنا في شوقنا إلى أهلنا وحاجتنا إلى دفئهم.. دفء روزا كان أكبر وأنقى.. لم يدخل في بازار التطييف..
روزا خلاصتنا أنس وأنا، سنربيها على أنه منكم من أسلم بالإنجيل ومنكم من أسلم بالقرآن.. لن نخدعها في تمثيلية حب الآخر التي توصل الى انفصال الأرحام وصِلات القربى وقيام عداوات ودم.
أليست حربنا الأهلية التي قامت ولم تقعد بعد، نتاج بغض تأصّل في الجينات، فصارت مورّثة؟ لن أدخلها في خلايا ابنتي.. الآخر هو صديق حقيقي، ورفيق حقيقي، وجار حقيقي وابن، وأم وأب وشقيق وقريب هو قطعة من ذاتها، إن دان بدين الأخلاق والمعاملة.. يليق به ما يليق بي، ويستحق ما استحقه.
وتجرّأ أنَس على إعلان زواجنا لأهله.. طلب إليهم زيادة ما يرسلونه له من مال، لأنه يريد لابنته، حفيدة العائلة، حياة كريمة.. لم يقصّر والده في زيادة المبلغ الذي كان يخصصه له كل حين.. واعتبرنا أن هذه بادرة خير من والديّ أنَس، ستفتح أمامنا أبواب علاقة جيدة معهما.
كان عمر روزا ثلاثة أشهر وأربعة أيام وتسع ساعات حين عاد أنَس، عابساً حزيناً، قلقاً.. لقد خابر “الفيللا” وعرف أن والده ليس بخير.-
-“بابا تعبان تعبان قوي”.. كم بدا حزيناً وهو يخبرني.-
-كيف؟
-كنت بكلّم ماما وقالتلي انو في العناية المشدّدة.. أزمة قلبية.. أنا لازم أنزل مصر.
شعرت فوراً أن أنَس، إن خرج حاملاً حقيبته الخفيفة، لن يعود.. لا تسألوني لم اجتاحني هذا الإحساس. لا أعرف..
أذكره الآن بقوة.. كأنه يساورني الآن.. لكن كيف؟ لم؟ لا أعرف.
-“معليه حبيبي ان شا الله كل خير.. سلامة قلبو وعمرو”..
قلت ذلك بصدق، فالرجل المريض جداً والذي لا أعرفه، هو والد زوجي.. حبيبي، وجدّ ابنتي..
ليلتها، نامت روزا بيننا بطلب من أنَس، ظل كل الليل يتأملها، كأنه يريد أن يشبع منها، ثم ينظر إليّ كمن يحفر صورتي في عينيه.
عند الصباح، طمأنني أنه لن يتأخر في العودة إلينا، وأنه بمجرد أن يطئمن على أبيه، سيعود على الفور.. لا يحتمل اشتياقاً إلينا.. روزا وأنا..
ودّعت أنَس، كأن قطعة مني تُسلخ مني.. لم أهتمّ كم ترك من المال على رف المطبخ، قال حينها:
- ما تقلقيش حبيبتي.. مش حا تأخر عليكم انتي وروزا..
لم ألتفت للنقود.. كان في بيتنا ما يكفينا لشهر، حليب روزا وحفاضاتها، وبعض المؤونة الموجودة في خزانة المطبخ..
لكن أنَس غاب.. غاب كثيراً..
غاب أنَس ثلاثاً وعشرين سنة.. تصدقون؟
هل مات أبوه؟ نعم مات..
وها هي ليلى هانم ترتب خطة أحكمت تنفيذها.. فبعد أن أصيب أبو أنَس بأزمة قلبية حادة، ضربت دماغه، لمْ تُربك بل استغلت الموقف بذكاء حاد.. جاءتها الفرصة على طبق من غيبوبة يومين وحداد.
انشغل أنَس في الأسبوع الأول من وفاة والده بتقبل التعازي، ثم بتنفيذ وصية والده، أن يستلم أعماله من بعده وفي الأعمال مشاريع وعقود لا يمكن أن تؤجل تنفيذها ولا تحتمل الغرق في الحزن.
صارح أنَس أمه أنني وروزا في بيروت وحدنا، ولا يمكن يتركنا لوقت أطول.. لا أحد لنا، لا معيل ولا أنيس.. ومن حقه كأب أن يبقى إلى جانب ابنته، وكزوج أن يحمي زوجته.
فطمأنته أنها ستأتي بنفسها وتصطحبنا إلى مصر حيث سنعيش عائلة سعيدة.. بكل هذه البساطة.
لم تكذب ليلى هانم.. جاءت بعد مماطلة.. كسرت قلبي وأذلّتني..
طال غياب أنَس ثلاثة أشهر وثمانية أيام ولم يعد بإمكاني أن أحتمل.. مؤونة بيتنا انتهت والمال الذي تركه لي نفذ.. ارتبكت، احترتُ وخفت، خفت كثيراً من ألاّ يعود.. قلبي لا يكذب عليّ..
وعلى قدر الغياب والخوف من الجوع والحاجة..
قررت أن أعود إلى بيت أهلي..
ورحت أقنع نفسي أنهم لا زالوا في بيروت، وأن قلبهم لان، وأنهم اشتاقوا لي، جميعاً، أمي، أبي، كريستينا، كارولين.. وينغمش قلبهم ليروا روزا حفيدتهم حاملة اسمي واسم جدتي مترجماً.
وصدّقت.
ألبست روزا أحلى ما عندها من شغل يدي.. قتلت الفراغ بغزل الكروشيه، هوايتي القديمة.. فستان صوف غزلته بصنارة الكروشيه مع ورود ملونة وغطيت رأسها الجميل بقبعة زهرية وشال صوفي أيضاً.. سأتباهى أمام أمي بما غزلت يداي.
حملت حقيبة وضعت فيها حاجات وملابس لروزا الصغيرة تكفي لأيام، إن أصرّ أهلي على بقائي لأيام ريثما يرجع أنَس.. لن أمانع.. على العكس تماماً، سأعود إلى غرفتي، التي ستصبح لي ولروزا.. اشتقت لسريري.. كثيراً..
تركت ورقة لأنَس على الطاولة ليراها جيداً فور دخوله البيت: “أنَس حبيبي.. أنا عند أهلي.. اشتقتلك”..
وخرجت من البيت، أحمل حقيبتي بيد وأحضن روزا باليد الأخرى.. يسبقني إحساسي بالأمان الذي سأجده “هناك”..
عبرت المعبر الفاصل بين “البيروتين” مشياً ولم أشعر بالمسافة ولا روزا أربكتني.. كم هي هنية ابنتنا.
هذا أطول مشوار لروزا معي.. وما قبل آخر المشاوير.. كنت أحياناً أخرجها لدقائق، أتمشى بها في الشمس، أو أهدهدها لتنام، بانتظار عودة أنَس.. لكن أنَس لم يأتِ.
ركبت سيارة تاكسي، أنزلني السائق عند مفرق البيت.. بيتنا بيت أهلي..
أعطيته ما تبقى معي من مال.. ونزلت من السيارة ما حاجتي للمال بعد اليوم؟
لن يتخلى عني أهلي..
ملأت عيني بتفاصيل المكان.. كم أحبه.. كم اشتقت اليه.
اقتربت من الباب.. كان قلبي يخفق بسرعة..
ترددت قليلاً قبل أن الدقة الخفيفة الأولى، ثم وقبل أن أتراجع.. كانت الثانية أقوى..
وسمعت خطوات أمي تقترب.. كانت روزا نائمة كملاك صغير.. ما أحلاها..
فتحت أمي الباب.. ابتسمت لها فوجئت بي.. عبست وسارعت الى القول بنفور أرعبني:
– شو جاية تعملي هون؟
..يتبع