– وأنس؟
– أنَس ما يعرفش حاجة..
صحا ضمير ليلى هانم بعد أن كسرت حياتي، بسبب عارض صحي اصابها.. هل اشفق عليها أم أحقد؟
لا مكان للحقد حيث أنا.. أنا هنا أتفرّج على عروض حياتي وأتأمل في ما كان..
أنا هنا أفهم الجميع.. وأسباب الجميع..
أليس هذا ما يجب أن يكون؟ أليست هذه هي المحبة؟
أعرف الآن كيف خرجت ابنتي روزا من المستشفى وهي تركض، تركض، تركض.. مصدومة بالحقيقة التي خبأتها.. كيف مشت مسافات دون أن تستطيع تفسير ما يجري..
لو أستطيع ضمّها إلى قلبي، وأقبل رأسها ويديها وعينيها.. لو أستطيع أن أعانقها.. ليتني..
هي الآن تبكيني.. تظن أنني مت.. هي الآن خارج الغرفة حيت أسرح في كوماي.. طفلتي التي صارت صبية جميلة، حرمت من أن أراها تكبر أمام عيني.. أن أسهر عليها وأغنّي لها، أن اسرّح شعرها، أن أرافقها الى المدرسة، أن أتابع دروسها.. أن أعرف هواياتها..
ها هي روزا الجميلة تبكيني.. لم تشبع مني ولا شبعت منها.. أريد أن أعود.. لا أريد أن أنتقل الى آخر النفق.. أريد ابنتي التي ناضلت كثيراً لتلتقي بي.. وأشفقت على أنَس الذي كان مثلنا، ضحية كيد لا مبرر له سوى اختلاف الأديان؟؟.. لم تكن ليلى أفضل من أهلي في تعصبها ورفضها للآخر..
ما بي أتعجّل في حكاياتي.. ما بها تتسارع لتحكي عن حالها؟
هل اقترب ارتحالي؟
كدتُ أحتفل بسرطاني..
ساعدتني سالي في أن وجدت لي عملاً أقوم به من داخل بيتي.. لم تستطع إقناعي بأن أتابع دراستي، ولم تبرّد نار قلبي في تكرارها أنني لا زلت شابة والحياة بطولها وعرضها أمامي.. لم تنجح في أن تعيد حب الحياة إليّ.. لم تفلح في أن تجعلني أتفاءل أو أرى النصف الملآن من الكوب.. كوبي انكسر وأنا حية لأني لم أمت.. وها أنا في بيتي، أتقبل قصاص ربي، وأرجوه أن يعيد إليّ ابنتي التي فقدتها. فقط. وبعدها أموت. لا يهمّ.
خيّرتني سالي بين أن أفرم الخضار وأجهزها في علب بلاستيكية وأكياس نايلون، وبين أن أغزل الكروشيه لمحلات ألبسة ولادية تعرفها.. كيف أغزل الكروشيه وابنتي راحت مني؟
لن تمسك يدي صنارة بعد اليوم.. وافقت أن أفرم الخضار، أجهزها للمتاجر الكبرى.. مرتان في الأسبوع، تأتي لي سالي بكميات من الخضار، من كل الأنواع، كوسى، جزر، بقدونس، فاصوليا، لوبياء، باذنجان.. أغسلها وأجففها وأفرمها كما حُدّد لي..
أصلاً نسيت حديقة جدتي وشجرها ونباتاتها.. “كل شي أحسن من بني آدم؟” لا جدتي أحسن منها جميعاً.. أهملتها.. لم أرغب في أن تعيش “زريعات” جدتي وتموت هي، وتموت حياتي وأفقد ابنتي ويرحل أنَس ..
هكذا أمضيت سنين.. سنين.. في مطبخ جدتي.. مطبخي، على طاولة الطعام الخشبية.. أوزّع وقتي بين كل أنواع الخضار.. أفرم وأقطع وأوضّب، وبين الصلاة.. وفي آخر كل شهر.. تأتيني سالي بأتعابي..
ثلاثاً وعشرون سنة مرّت وأنا أمارس عملي كماكينة.. استعملت آلاف العلب البلاستيكية وأكياس النايلون، لم تتبدّل حياتي..
ذات يوم، وكنت لم أجد وقتاً للاستحمام لخمسة ايام، من كثرة الطلب على الخضار المفرومة، كان عندي كدسات وباقات وأكياس علي أن أسلمها كطلبية إضافية.. أنهيت الفرم والتقطيع، بعد أن غسلت كل الخضار جيداً وجففتها ثم وضّبت كل شيء في العلب والأكياس الخاصة بكل نوع.
في الحمام، لاحظت تحوّلا غريباً في شكل ثديي الأيسر الذي اقتطعت منه شظية قسماً صغيراً.. تعوّدت على شكله.. أصلاً لِمَ أهتم بشكله؟ لمن؟
يبدو شكله مرعباً.. لم أكن أعرف ما هو سرطان الثدي.. نعم.. كنت مصابة بمرحلة متقدمة من سرطان الثدي.. الذي تمدّد براحة وصمت لئيم في كل جسدي..
في اليوم التالي، موعد مجيء سالي لأخذ البضاعة الجاهزة، الموضبة المرتبة.. لاحظت أنني تألمت حين مددتُ يدي أعطيها علب البلاستيك لتعدّها، كلما حركت كتفي وصدري.. لم أنتبه أنها راقبتني.. سألتني ما بي، فقلت ربما من كثرة التعب.. لم يقنعها جوابي..
أصرت، فأخبرتها أن ثمة ورم في صدري، سببه إصابتي القديمة.. قد يكون هو السبب..
جنّ جنون سالي.. وأصرّت أن أكشف لها صدري، لترى بعينيها ما الذي يؤلمني.. خجلت كثيراً.. فقالت:
-بغربة روزا.. اقشعر بدني ووافقت على خجل..
غربة روزا؟ متى تنتهي؟
صدمها شكل ثديي الغريب.. إن الداء يأكله.. لقد سحب الحلمة إلى الداخل وكأنه ابتلعها. كانت لحظة مرعبة.
جُنت سالي وبكت بل أجهشت في البكاء، قالت إنها لا تريد أن تخسرني كما خسرت صديقة لها منذ مدة قصيرة التي لم تفك الأسود حداداً عليها بعد..
– ما بدي البس أسود عليكي.. عم تسمعيني..
ثم راحت تشرح لي بصراحة متناهية.. أنها حالة متقدمة من السرطان.. استوطنت الثدي الأيسر بالتأكيد.. وفي حال إهمالي الدائم والمقصود، فإن سالي افترضت أنه قد يكون انتشر..
– هيك الله كاتبلي.. كتّر خيرو.. وأخيراً رح ارتاح يا سالي..
تأملتني سالي وأنا أدافع عن موتي القريب.. كانت عيناها تلمعان بإشفاق غريب..
-على شو بدي إزعل؟ اني كسرت خاطر أهلي؟ اني ما قدرت أوصل لأنس؟ اني ما قدرت لاقي بنتي؟ شو بعمل؟ بدك ياني كفي حياتي هيك؟ مقبورة بين أربع حيطان، عايشة عالخيبات؟ هونيك أحلى.. بروح بشوف أمي وبيي وأخواتي.. وبنتي.. بنتي روزا..
– بس بنتك يمكن ما تكون ماتت.. مش انتي بتقولي قلبك بيقلك انو بعدا موجودة؟ انتي ما شفتيها شي ميتة؟ بتقولي ما شفتيها.. الله يخليكي.. كرمال روزا بتروحي معي تعملي فحوصات.. الطب كتير تطوّر..
لاحظت سالي أنها أثرت بي، حين زرعت الأمل بأن ابنتي لم تمت..
– ربنا خلق المرض وخلق العلاج.. ما قال نهمل حالنا.. روز ببوس ايدك وعديني.. يا الله.. (بكت كثيراً).. ليه ما قلتي من الأول؟ ليه يا روز ليه؟ بعدين بعدين.. بدك روزا تشوفك مريضة ومنهارة.. أو لا سمح الله ما تشبعي منها ولا تشبع منك..
لبّكتني سالي.. قلبت كل تفكيري.. ولم تغادر سالي بيتي إلا بعد أن وعدتها بأنني سأرافقها الى طبيب مختص للكشف على حالتي والعلاج.. لم أستطع الاحتفال بسرطاني.
غادرت سالي.. أقفلت الباب وأسرعت الى تمثال السيدة العذراء.. مرغت قدميها بدموعي..
– يا أم النور.. يا أم الكل.. وحياة ابنك الحبيب يسوع.. ببوس اجريكي رجعيلي بنتي.. خليني شوفا لمحة وموت..
في صباح اليوم التالي، خرجت باكراً جداً من البيت.. أريد أن أزور أهلي.. إنه الموعد الوحيد الذي لم أفوّته من زمان.. استقليت سيارة تاكسي لتنقلني الى المقبرة، لأزور أهلي.. ألم أخبركم؟
لم يهاجر أهلي.. ألغوا المشروع.. وقرروا أن يهاجروا ضمن حدود الوطن..
كانت مجموعة قذائف عشوائية بالمرصاد..
كان ذلك بعد شهر من زيارتي لهم..
قرر أبي أن يغادر المنطقة هرباً الى هنا.. إلى بيت جدتي.. خبرتني سالي بذلك.. لقد حاولت أن تعيد وصل ما انقطع معهم، حين اكتشفتني بعد غياب.. أرادت أن تلين القلوب..
في ذلك اليوم، جمع أبي وأمي ما يحتاجانه على عجل، فالموت كان عشوائياً.. ووضعا شقيقتي في المقعد الخلفي ثم ركبا السيارة.. أدار أبي محرك السيارة.. وهمّوا بالمغادرة.. فسقطت قذيفة أمامهم.. ثم خلفهم ثم على يمينهم.. ماتوا جميعاً..
أرى الآن كيف ارتمت شقيقتاي في حضن أمن وأبي.. كيف تكمشّوا ببعضهم البعض.. وتشظّوا ككتلة واحدة.. حين انتهت نوبة الجنون القاتل والقصف اللئيم.. لمّوهم جثثاً مقطعة مختلطة الأوصال..
حين عرفت سالي بمقتلهم، حرصت على أن تضع كل نتفٍ في مرقد خاص.. أكرمت سالي عائلتي، فرداً فرداً، بتخصيص قبر لكل منهم.
هي دلتني على المقبرة.. هي التي وقفت بعيداً تراقبني وأنا أدخل اليهم.. لأزورهم..
أراني الآن في زيارتي الأولى لهم، أقترب من قبورهم.. هنا يرقد أحبتي.. أسمع أنيني الموجوع.. كيف أودّعهم؟
هل سامحوني؟
أسمعني أصرخ وأنوح.. يا ساكني القبور سامحوني.. يا أمي خذيني إليكِ.. يا أبي ليتني جُبِلت معك.. كارولين.. كريستينا.. يا أهلي يا عائلتي.. يا أحبتي سامحوني..
وأنحني على الأرض.. أجرف كمشة تراب بأظافري.. وأمرغ بها وجهي وشعري وثيابي به..
يا خساراتي.. يا ويلي.. يا وحدتي.. يا حزني الكبير.. يا فقدي العظيم..
صدمت لفقد أهلي كثيراً.. وبقيت سالي تواسيني، وتقنعني أنهم سامحوني، وأنهم اشتاقوا لي كثيراً وأنهم سعداء حيث هم ولا تريدني أن أحزنهم لحالي..
برّدت بعضاً قليلاً من حرقة قلبي.. البعض القليل.. هل توجّعوا؟ هل بكوا؟ كيف كانت شهقاتهم الأخيرة؟
هل عرفوا ممراً نورانياً طويلاً، فيه سلام لا ينتهي؟ أم انتقلوا ككل المظلومين الشهداء إلى الجنة؟
أعرف فقط أن المعلق بين الـ هنا والـ هناك.. يستعيد كل حياته.. مثلي..
ربما أكون تعوّدت على الحزن والفقد.. وطلبت الموت حتى ألحق بأحبتي.. لكن الأمل بلقاء ابنتي أعادني..
وابنتي أيضاً اهتمت بأن تلقاني، كيف لا تفعل وهي خدعت بموتي وفقدي لسنوات؟ عادت الى الفيللا لتجد أن الكل يبحث عنها، قلق لغيابها..
كان أنَس سافر بعد أن اطمأن الى حال أمه الصحية، في رحلة عمل لا تؤجل..
عادت روزا لتواجه جدتها.. وواجهتها، وفاجأتها بأنها تعرف أنني لا زلت حية..
أصرّت أن تعرف اسمي واسم عائلتي.. وبلّغت الهانم أنها ستأتي الى لبنان لتبحث عني..
يا الروزا الحبيبة..
وبالفعل.. أجرت روزا بمساعدة صديقتها نيللي، كل الاتصالات اللازمة لحجز مكان على أول رحلة الى بيروت، ثم غرفة في فندق.. وجاءت الى لبنان.. بحثاً عني.. شوقاً إليّ.. الآن أعرف التفاصيل..
وأعرف أيضاً أن التاريخ سيعيد نفسه.. لا يمكن للتاريخ إلا أن يعيد نفسه.. ربما هذا قانون الكون. ربما تدوال الحيوات.. ربما ارتقاء الأفكار.. لا أعرف..
في رحلة البحث عني، لم تكن روزا تملك سوى كلمتين عرفتهما من ليلى هانم.. كانتا اسمي: روز الخوري، وكانت مرحلة اكتشاف آخر: أنني مسيحية..
كم ترى روزا، ابنتنا أنا وعمر، أن حياتها ستصبح أغنى ولا تروح في ضيق التعصب..
أعرف الآن، من هنا من كوماي، أن روزا تحمل من نبضنا، أنَس وأنا الكثير الكثير.. فيها التمرّد وفيها قبول الآخر، وباروميتر القبول عندها صدق الآخر.. منهنا رفضت جدّتها ليلى هانم ولم تسامحها لأنها كذبت، وجرحت وأبعدت ورسمت مسار حياة محزنة لنا جميعاً، روزا، أنَس وأنا..
بحثَت روزا في غياهب الانترنت عن العائلة وعرفت أنها عائلة كبيرة ومتواجدة في أكثر من منطقة.. وعرفت أن رحلة البحث لن تكون لا سهلة ولا سريعة..
نعم.. عرف أنَس الحقيقة.. أنني ما زلت على قيد الحياة.. أي حياة؟
أراه كيف سكت طويلاً حين اتصلت به روزا حين عاد بعد يومين الى القاهرة، من رحلة العمل السريعة، لقد خبرتها دادا مديحة… أنه عاد.. وكانت صلة الوصل بينهما نيللي العزيزة.. كان في صوته عتاب أب.. كيف تسافر ابنته دون أن تخبره أو تستأذنه.. لكن تفهّم كثيراً حين عرف الحقيقة، بضع كلمات قالها لروزا ثم سكت..
أنَس يحتاج للوحدة:
– خدي بالك من نفسك.. سلميلي على بيروت.. حا اقفل دلوقتي.. حا اتصل بيكي.. مع السلامة يا روحي..
لم يكن بإمكان أنَس أن يقول غير هذا الكلام..
..يتبع